الذوقُ العام.. فعلٌ فرديٌّ أم انعكاسٌ لبيئةٍ مجتمعيّة؟

ريبورتاج 2024/07/11
...

 رحيم رزاق الجبوري

بات مألوفاً مشاهدة بعض التصرفات غير اللائقة في حياتنا اليومية، وأضحت من البديهيات مثل: رمي الأفراد لقناني الماء في الشوارع، وسماع الكلام البذيء الذي يتقافز من ألسن البعض في الأماكن العامة وفي وسائط النقل، وإصدار الضوضاء وإزعاج الآخرين واللامبالاة في هدر الماء ورمي الأوساخ في كل مكان، أو حرقها قرب البيوت وفي الشوارع، فضلا عن الشجار في الشوارع والصراخ بأصوات عالية، مصحوباً بكلام بذيء يتطاير من الأفواه من  دون وازع أخلاقي أو ديني أو مجتمعي.  كل هذه الأفعال وغيرها - للأسف- بدأت تتناسل وتؤثر في بيئة المجتمع وتهدد قيمه وأعرافه وعاداته الأصيلة والثابتة المبنية على الالتزام الديني والأخلاقي والعشائري.  

أصول الأدب

إلى ذلك يشير الشيخ محمد الحمودي (إمام وخطيب) إلى أن: "بعض هذه الممارسات تدل على جهل أو تجاهل صاحبها لأصول الأدب؛ نتيجة لسوء التربية وضعف الوازع الديني الذي يهدف إلى تمام مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، فضلاً عن حفظ حقوق البشر وأدائهم لواجباتهم.

والعجيب إصرار أولئك على تجاهل مشاعر الناس، وطغيان حب الذات عليهم، واعتيادهم على قلة الذوق تجاه غيرهم، من خلال ممارسات مخجلة وغير إنسانية". 


حقوق مضمونة

ويضيف: "أن تجاهل حقيقة العيش مع أناس آخرين لهم حقوق مضمونة شرعاً وعرفاً أصبح أمراً طبيعياً لدى كثير من الناس، فمن أمثلة الممارسات المنتشرة، الوقوف الخاطئ بالمركبة، والتضييق على الناس في الطرق العامة، والكتابات على الجدران، والتحدث بالهاتف الجوال بصوت مرتفع خلال مكبر الصوت في أماكن عامة، إضافة إلى الألفاظ المشينة التي قد تتخلل تلك المكالمة، والبصق في الطريق وأمام المارة، وإلقاء المهملات قريباً من براميل القمامة، بل ترى بعضهم يقوم بتخريب الممتلكات العامة، فحين ندخل لأية حديقة عامة، سنجد كل ألعابها تحوَّلت إلى أكوام حديدية قبيحة مهملة في زاوية من الحديقة، ناهيك عن العبث بكل محتوياتها وأزهارها الجميلة، ومدارس أعدت للعلم والمعرفة وتهذيب الأخلاق، نجد أن طاولاتها وكراسيها وملاعبها وصالاتها وحتى دورات المياه فيها مهشمة ومحطمة شر تحطيم".


ظاهرة اجتماعيَّة

ويكمل: أن "مثل تلك السلوكيات، لم تعد فردية، بل أصبحت ظاهرة اجتماعية، استمرأها بعض البشر ممن تخلفوا عن ركب الأخلاق الحميدة، والذوق السليم واعتقدوا خطأً بسلامة سلوكهم المشين، بل وبفضلهم على غيرهم بما ملكهم الله إياه من مال أو سلطة. 

ومن المشكلات العصيبة التي تنتج عن انعدام الذوق، أو قلّته، وسوئه؛ تسبّبه في صنع الجريمة ومضاعفتها، لأن قلة أو انعدام الذوق يؤدي إلى سلوك سيئ للإنسان، ولهذا قيل سابقاً: (إن الذوق السيئ يقود إلى الجريمة)". 


مغالطة

ويؤكد الحمودي، بالقول: "كثيرون مَن يعدون أن مسألة الذوق هذه تخضع للطبائع والأعراف فقط، ولا علاقة لها من قريبٍ أو بعيدٍ بالدِين، والحقيقة: أن هذه مُغالطة؛ فالدِّين جاء مهذِّبًا للفِطَرِ، مراعيًا للشعور، منقِّحًا للأعراف مع اختلافها. 

وقد تعدَّدت صور اهتمام الإسلام - بوصفه الدين السماوي الخاتم- بالذَّوق، وأخذ ذلك عدة أشكالٍ أهمها مراعاة الإسلام للذَّوق العام، بعدم اختراق النظُم العامة المعمول بها ما لم تتعارضْ مع شرع الله، وذلك كالاهتمام بتهذيب شهوة الطعام لدى المسلمين، وعدم النَّهَم بما يُظهر المسلمَ في وضعٍ يَنتقده عليه مُجالِسوه، لا سيَّما أن كانوا على غير الإسلام، روى الترمذي في سُننه من حديث المِقدام بن معدي كرب (رض) قال: سمعتُ رسول الله (ص) يقول: (ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمْن صلبَه، فإن كان لا محالة فثلُثٌ لطعامِه، وثلُثٌ لشَرابه، وثلُثٌ لنفَسِه)، بل كان النبي (ص) يُهذِّب الصبية إذا ما وقعوا فيما يناقض "الذَّوق"، كما في حديث عمر بن أبي سلمة (رض)، قال: (كنتُ غلامًا في حجر النبي (ص)، وفي رواية: كنتُ مع النبي (ص)، وكانت يدي تطيش في الصحفَة، فقال النبي (ص): (يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينِك، وكُلْ ممَّا يَليك)". 


رسالة الإسلام

ويختم حديثه، بالقول: "إن الإسلام حثَّ على انتقاء ما يُسمَع ويُشاهَد، بل وما نُسمِعْه غيرَنا ونَجعلهم يُشاهدونه، محذِّرًا مما يَخدش "الذوق" العام أو يُجافي الحياء؛ قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} وأن نلتزم بأدبيات السماع والمُشاهَدة بألا نفرض ذوقَنا على الآخرين إلا إذا رضوا هم. 

ولأن رسالة الإسلام ليست جامدة، فلم تقف عند مراعاة "الذوق" في حدود الأمور المرئية والمسموعة وغيرها من المحسوسات فقط، بل تعدَّت ذلك للوجدان".


تحولات جذريَّة 

منذ العام 2003، شهد المجتمع العراقي تحولات جذرية أثرت في مختلف جوانب الحياة اليومية، وبرزت العديد من التصرفات والعادات السلبية التي لم تكن مألوفة في الماضي، وأصبح بعضها جزءًا من الثقافة اليومية. 

وبحسب الكاتب والإعلامي غفار عفراوي، الذي يؤكد أن "هذه الظواهر لا تعبر فقط عن تغيرات فردية، بل تعكس أيضًا تدهورًا في الذوق العام، ما يطرح تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذه التحولات، ومنها: الفوضى الأمنية والسياسية، التي أدت إلى ضعف سلطة القانون وانتشار الفوضى، إضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي وزيادة معدلات البطالة، وكذلك الانفتاح على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي".


أسباب

ويضيف عفراوي: "من مظاهر التصرفات والأفعال الشائنة: اللغة البذيئة، والتجاوز على القوانين، والعنف المجتمعي، وغيرها. 

ويعود ذلك بسبب ضعف النظام التعليمي وقلة الاهتمام بالتربية الأخلاقية، وغياب الحملات التوعوية والإعلامية التي تركز على نشر القيم الإيجابية، إضافة إلى ضعف تطبيق القانون ما يؤدي إلى شعور الأفراد بالقوة والغلبة وعدم وجود أي رادع ضدهم".


شكراً.. ما أسهلها

يقول د. جليل وادي (كاتب وباحث): "تزداد ثقة الأفراد بالمجتمع، ويتعزز انتماؤهم له، ويطمئنون لنواياه، ويبعث في نفوسهم الاسترخاء؛ إذا ما رأوا أن الذوق السائد فيه رفيع، في تعاملات الأشخاص، والعناية بانتقاء الألفاظ، وحسن اختيار الملبس، وطريقة السير في الشارع، وأسلوب تناول الطعام في الأماكن العامة، والاهتمام بالبيئة وغيرها من مظاهر الذوق العام. 

وهو معيار يُستدل به على مستوى تحضر المجتمع، فإذا تراجع الذوق العام وساد الخاص فتيقنوا أن الغابة في طريقها للتشكل، بمعنى أن السلوكيات تجري على الهوى وبحسب النزعات والميول وعدم احترام الآخرين، ما يفقد الحياة جانباً من جمالها. 

وشكرُ من يسدي لك فضلاً، ينمُّ عن ذوقك، وهو من البديهيات التي قد يكون التذكير بها معيباً، فبالشكر تدوم النعم، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله تعالى، والشكر مفتاح القلوب، هذه تأكيدات ورثناها لبيان ما للشكر من أهمية، لكن الملاحظات تشير إلى أن هذه المفردة البسيطة التي لا تكلف جهداً أو مالاً، لا وجود لها في القاموس اللغوي والروحي للبعض، وهذا البعض آخذ بالازدياد".


تراجع ونكوص

بينما يرى التربوي أحمد مكطوف، أن: "التراجع والنكوص في الأداء لا يقتصر على السياسة والإدارة فقط، فهناك تراجع مواز في بقية المجالات، وهذا يعطينا مؤشراً مهماً حول دور المجتمع في ذلك. 

فهناك تراجع مخيف في الذوق العام، بدءاً من مؤسسات الدولة السيادية والتشريفات الرئاسية والأثاث واللوحات المعلقة على الجدران وخلفية البرلمان وملابس المسؤولين والمسؤولات وأناقتهم ورشاقتهم مروراً بالفنون والغناء وصولا للديكورات والبناء الحكومي والأهلي، والأزياء أيضاً، فالمستورد من الملابس لا يحمل أي لمسات تصميمية بسيطة وأنيقة وإنما يعتمد على الزركشة والتداخلات اللونية والتقاطعات التصميمية. 

كما انسحب ذلك التراجع على اللغة وعلى طريقة التعامل بين الناس وفي تواصلهم وتزاورهم وفي مناسباتهم الاجتماعية وباتت الفوضى تتصدر المشهد بعد أن غابت بعض التقاليد الاجتماعية المدنية الراسخة وحلت بدلاً عنها تقاليد غير مهذبة". 


جيل متمرد 

بدوره يرى د. جبّار ماجد البهادلي (ناقد وكاتب) أن: "المجتمع العراقيّ يُعدُّ من أكثر المجتمعات العربيّة في الشّرق الأوسط تقليداً والتزاماً بِقِيمه الاجتماعيّة والثقافيّة والدينية المتوارثة؛ كونه في تركيبه البنائي يعدُّ مجتمعاً عشائرياً يسعى بجديةٍ إلى التحرّر ثقافيا من ظلِّ عباءة العشائرية الضيّقة والارتماء في أحضان الدولة المدنية الراقية الواسعة. 

ولكنّ إزاء ذلك ونتيجةً للتغيُّرات، والتحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والدينية السريعة الراهنة والتي مرّ بها العراق إبّانَ وما بعد تغيّر نظام الحكم السياسي القائم في العراق عام 2003 الذي كان يَحكُمُ قبضتهُ المؤسساتية الصارمة على رقاب الشعب، شهد العراق ظهور جيلين من الشّباب الجريء المُتمرِّد والمتنمِّر العنيد اللّا واعي، والذي لم يُدرك أو يفهم تماماً إثر ذلك تطبيق مبادئ سلطة المؤسّسات القانونية الجديدة التي تُنظّم حياةَ المجتمع، بسبب عدم تخوّفه منها؛ لأنّه لم يعش سلطة وجور النظام الحاكم السابق".


تصدع وتحطيم

ويضيف: "إنّ انهيار منظومة القيم المجتمعية وتفكّكها جزئياً بفعل العوامل السياسية الخارحية والداخليّة على مستوى البيئات الثقافية والمعرفية الزمكانية الثلاث: الأُسرةُ أو (البيت)، والتعليمُ أو (المدرسة)، والمجتمع أو (المحيط الخارجي البيئي) قد أسهمت هذه البنيات الثلاث إسهاماً كبيراً وملحوظاً وفاعلاً في تَصدُّع وتحطيم جدار المنظومة الأخلاقية الصلبة، وفي غياب مهماز الوعي الفكري والثقافي والاجتماعي والديني الذي يوجّه الناس".


غزو ثقافي وفكري

ووفقاً للبهادلي الذي يؤكد في ختام حديثه "عدم وجود رقيب أو عتيد حازم صارم في الأُسرة يتابع تحركات الأبناء، ويأْخُذ بيدهم في الاتجاه البوصلي الصائب ونكوص دور الأب والأُم  الفاعلين في تصحيح المسار الخاطئ، وتشخيص أُس المشكل الحقيقي. 

فلمْ تعُدْ البيئة التعليمية الجديدة قادرةً على النهوض بالمستوى العلمي والتربوي والأخلاقي المتعارف عليه لدى طُلّابها، وبالتالي عجزها عن تنمية وبناء أفكارهم العقلية علميّا وابستمولوجيّا خلال ساعات الدراسة المحدودة، وضعف دور المُعلّم الحقيقي الذي اختفى، ولم يكن بمقدور الواقع الاجتماعي البيئي المُلوث انتشال الأجيال الجديدة الناشئة المتواثبة، والتي تُعاني من ظواهر التخلّف الفكري والبطالة والجهل وانتشار ظاهرة الأُميّة، إضافة إلى غياب الوعي الثقافي، وضعف واعز الإيمان الديني، وظهور ثقافات جديدة، وتفشي ظواهر سلبيّة خطيرة في الشارع العراقي لا تَمتُّ بأيّة صلةٍ لواقعنا التأصيلي الحضاري العريق المُحصّن. 

فضلاً عن ذلك كله غياب دور الدولة الرقابي المؤسساتي الحقيقي في فرض هيبة القانون، ومحاربة الظواهر السلبية الهدّامة التي تمخرُ عُباب المجتمع وتهدمُ بنيته الأساسية، والتي أخذت تنتشر في مجتمعنا كانتشار النّار في الهشيم؛ نتيجةَ تنامي مساحة وفعل وسائل الاتصال الاجتماعي بمختلف أنواعها وصفاتها المُتعدّدة. 

والتي شرعت تُمارسُ دورها السِّلبي وغزوها الفكري والثقافي الخطير في المجتمع المُحافظ دون رادعٍ أو حَسيبٍ يضعُ حلّاً ناجعاً لهذه المنابع الفتّاكة المُثيرة التي أُسيّء استخدامها سلباً لا إيجاباً على أنها حُريّةٌ شخصية، وهي في الحقيقة فُوضى عَارمةٌ، وذلكَ نتيجةً واضحةً لمقولة: إن (مَنْ أَمِنَ العقابَ فَقدْ أسَاءَ الأدَبَ)".