محمد طهمازي
" إلهي، إن السيد الصغير لهذا العالم لا يزال بنفس الطابع، ولا يزال عجيبا كما كان في اليوم الأول.
وكان سيحيا على نحو أحسن قليلا، لو أنك لم تهبه وهم نور السماء.
ذاك الذي يسميه العقل، لكنه لا يستعمله إلا ابتغاء أن يصير أكثر حيوانية من أي حيوان.
ويبدو لي إن أذن لي لطفكم، أنه يشبه جندبا طويل الساقين، يطير دائما ويتواثب طائرا منشدا في العشب نشيده العتيق، بودي لو رقد إلى الأبد في العشب! لكنه يدس أنفه دائما في كل السفاسف".. يوهان غوته.
إن ظهور فنانين رافضين للتقاليد السائدة هو تعبير عن حالات حراك فكري جديد يرفض الرتابة والتكرار والعيش في تجارب الآخرين.
ويخضع هذا التمرد للأسس الثقافية وحالة الوعي التي يعيشها كل فنان والتي ستظهر من خلال تحويله إياها لأعمال وأساليب فنية.
تعيدنا أعمال سنان حسين اللاذعة إلى عهد تلك اللوحات التي وضع عبرها الاسباني فرانشيسكو غويا قساوسة محاكم التفتيش في أطباق السخرية والنقد فى نهايات القرن الثامن عشر وصوّرهم بهيئة أشباح ومسوخ مشوهة، الأمر الذي استفز طبقة رجال الدين وضرب هيبتهم وشعروا ببداية خطر يتهدد سلطتهم حينما انتشرت نسخ تلك الأعمال بين عامة الناس.
ثمة حزمة مختلطة من الانفعالات النفسية والفكرية يعكس سنان ترجماتها على سطح لوحات تستمد صخبها من قلق الفنان أو الجو القلق الذي يجد نفسه فيه.
ورغم كون الفنان في الأصل نخبوي لكنه لا يملك لنفسه، في الغالب، الانسلاخ عن المجتمع وإن تحقق له ذلك فلسوف يقع في فخ العالم.
إنها مصائد يجتازها سنان وهو يحمل شيئا من روحها بعدما يترك فيها شيئا من روحه.. لكل مغامرة ثمن والفنان هو المغامر الأكبر والفائز الكبير والخاسر الأكبر.
إن مما لا مهرب منه وجود المتغيرات والتقلبات والإزدواجيات في أي مجتمع، سواء أعجبتنا أم أثارت حنقنا ورفضنا، بيد أنها في ذات الوقت تشكل ميدانا غنيا بالمشاعر المتناقضة يمد الفنان بالصور التي يشكلها وفق معمارية رؤيوية تدخل فيها مزاجيته وتتحكم فيها قناعاته وفلسفته في الحياة لتنعكس أعمالا فنية على سطح اللوحة، مستخدما أسلوبه التقني وألوانه المساعدة التي يوظفها بضربات فرشاته الهادئة تارة والإنفعالية تارة أخرى لخلق معالم وحدود للأشكال والشخوص والفراغ في جو تلعب في مسرحه الرمزية والتعبيرية باثة مشاعره وأحاسيسه الرافضة في الغالب كونه يرى، وفق ما يمليه عليه وعيه، أنه
أمام واقع هو في المجمل قد بلغ من النشاز والتلوث الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والإقتصادي والديني حدا لا يطاق، على شاكلة الحال في أسبانيا محاكم التفتيش حيث تتخم الفئات المتنفذة وحاشيتها ورعاعها فيما يئن بقية الشعب تحت نير الجوع والفقر والمرض.. كل ذلك لا بد أن يحفز عبقرية الفنان الحقيقي لتتفاعل مع ذاته التي توجد آليات ورموز للتعبير بأسلوبه الذي يحمل السهل والمعقد، الثابت والقلق، الساخر والغاضب، في حالة من عدم الاتزان لا تبدو غريبة على فنان، متمرد رافض للمشاركة فيما يعتبره أكذوبة كبيرة، فنان خرج من بلد غطاه رماد الحروب والدماء ولغط الصراعات ولغة التناحرات يسير نحو مستقبل لا يمكن لأحد التنبؤ بماهيته أو هويته.
وهنا تأتي مرجعية سنان حسين في عملية مسخ الشخوص عبر دمج أجسادهم مع حيوانات معينة تعبيرا عن تداخل صفات الأنسنة والحيونة أو حيونة الإنسان في قالب إن تخطى المؤامرة الخارجية فهو لن يتخطى تشوهات المجتمع وعقده التي تظهر حينما تسنح لها الفرص أو تجد من يخلق لها الظروف المناسبة ويزين لها
انحرافاتها.
"فكر بالنظام الشيطاني الذي تمكن ذلك الحاكم المسخ من خلقه والذي يضطر الشعب كله عاجلا أو آجلا إلى المشاركة فيه كمتواطئين.
نظام لا يمكن أن ينجو منه إلا المنفيون، وهم لا ينجون دائما، والموتى.. فالجميع في هذه البلاد كانوا أو سيكونون بطريقة أو بأخرى جزءًا من نظام أسوء ما يمكن أن يبتلى فيه مواطن هو أن يكون ذكيا أو كفوءاً ".
ماريو بارغاس يوسا.