القيم الجمالية لقصيدة النثر

ثقافة 2024/07/11
...

 أحمد الشطري

لعل تأكيد أغلب منظري الشعر العربي الأوائل على أنه:" كلام موزون مقفى" كشرط أساسي من شرائط الشعر، لم يكن كميزة فارقة بين الشعر والنثر فحسب، بل ربما هي إضمار لدلالة لا تقل أهمية عن بيان ذلك الفارق، وهي أن ثمة نثر يحمل روح الشعر سواء في بلاغة العبارة أم في تضمنه من صور متخيلة أم فيما ينطوي عليه من براعة في الوصف.

 وهو ما كان يمثل النوع الموازي للشعر منذ بدء التدوين الرسمي "إن جاز الوصف" للأدب العربي على أقل تقدير وإلى بدايات القرن التاسع عشر، إذ كانت مدونات النثر الفني لا تقل أهمية عن مدونات الشعر، باعتبارها أدبا ينطوي على قيم فنية وجمالية لا تقل عما ينطوي عليه الشعر من تلك القيم.

ومن خلال نظرة فاحصة لما مدون من النثر العربي نجد أن هناك نوعين: أحدهما يتمثل بذلك النثر الذي دون فيه التاريخ أو المؤلفات العلمية بمختلف أشكالها، وهو نثر رغم عناية المؤلفين فيه برصانة العبارة وحسن السبك إلا أننا من غير الممكن أنه نصنفه ضمن مسيرة النثر الفني أو الأدبي، وحتى ذلك النثر الذي يعتني بالتنظيرات النقدية، وثانيهما وهو ما نقصده بحديثنا هنا هو ذلك النثر الذي ينطوي على القيم الفنية والأدبية التي تجعل منه غاية للامتاع والادهاش والفيض الجمالي، ليس بما يتضمنه من ثيم سردية أو ثراء في المعنى فحسب، بل بما فيه من بلاغة وسعة خيال وحسن عبارة وغير ذلك مما يشكل قوة جذب وامتاع.

وهو ما نجده في الخطب وما روي من سجع الكهان ثم ما احتوته كتب عبد الله بن المقفع على سبيل المثال سواء في كليلة ودمنة أو الأدب الكبير أو الدرة اليتيمة، أو في بعض كتب الجاحظ  كالبيان والتبيين والبخلاء أو كتب أبي حيان التوحيدي كالامتاع والمؤانسة والبصائر والذخائر ورسالة الغفران للمعري وغير ذلك.

فيما شكلت المقامات بأسلوبها الفني وبنائها السردي شكلا مغايرا في النثر الأدبي العربي مثّل قيمة جمالية مضافة، سواء على صعيد المضامين أم على صعيد البناء الفني وحداثة الفكرة والتجربة في زمنها، ولا أحسب أننا نبالغ إذا ما قلنا أنها تمثل النموذج العربي للقصة أو القصة القصيرة، وليس معنى ذلك أننا ندعي أنها الأساس أو المرجع للقصة الحديثة التي جاءت بفعل التأثر بالأدب الغربي، فقول كهذا يمكن أن يفضي إلى قصور في الرؤية وتكلف بخلاف الواقع.

ولعل أقرب النماذج النثرية للأدب الحديث هي ما تمثلت بالمؤلفات النثرية للمتصوفة العرب، ولا غرابة أن نجد في نثريات النفري نموذجا لا يختلف كثيرا عن قصيدة النثر أو النثر الشعري، رغم أن مرجعية النثر الشعري وقصيدة النثر هي أيضا من الأدب الغربي، ولا علاقة لها بنثريات النفري وغيره، ولكننا في الوقت ذاته لا نملك أن ننفي تأثر بعض شعراء الحداثة بها، إذ شكلت نصوص النفري نموذجا مغايرا شكلا وبناء ومضمونا وايقاعا عما كان سائدا في النثر العربي، وهو ما أكسبها أهميتها في أدبنا الحديث.

ولم تقف مسيرة النثر الأدبي العربي عند هذا الحد، بل ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر أو ما قبله بقليل نماذج مختلفة من حيث الأسلوب والمعالجة والمواضيع تتماهى مع تغيرات الحياة، فظهرت المقالة الأدبية وظهرت كتب في النثر الفني تمتاز بأسلوب يجمع بين رصانة اللغة ورهافة الإحساس ورقة العبارة وحداثة التركيب، ومن ذلك ما نجده في مؤلفات جبران خليل جبران النثرية كدمعة وابتسامة، والبدائع والطرائف، والأجنحة المتكسرة، وغيرها. ومؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي كما في كتابيه العبرات والنظرات، وغير هؤلاء كثير ممن كتبوا المقالة ذات البناء الفني والأدبي الرصين.

كل هذه الأنواع النثرية التي كانت تسير بموازاة الشعر لم يعد لها وجود يمكن أن يشار له بالاهتمام في وقتنا الحالي، وهو ما يمكن أن نعزوه إلى عدة أسباب لعل منها: أن لغة الكتابة الآن باتت تؤكد على الفكرة أكثر مما تؤكد على الألفاظ المعجمية والمحسنات البديعية والتراكيب البيانية، إذ لم تعد هذه الأساليب تقع في دائرة اهتمام المتلقي أو تثير ذائقته؛ فقد أصبحت تلك الذائقة تميل إلى البساطة في المفردات والوضوح والمباشرة في طرح الفكرة، وبات لكل شكل إبداعي أسلوبه ولغته وصيغه التعبيرية التي تميز بين ما هو فكري وما هو جمالي أو ما يمكن أن يجمع بينهما.

فالمقالة الصحفية ابتعدت عن الأسلوب الأدبي وشعرية التعبير، واعتمدت على اللغة التي تنقل الفكرة بأبسط المفردات، وأيسر التراكيب. 

كما أن لغة القصة أو الرواية باتت تتخذ طابع اللغة الصحفية التي تقترب من العامية، مبتعدة عن المفردات المعجمية، وانحصر تركيزها في جانب تقني للسرد وأهمية الفكرة أو الثيمة، وبراعة إدارة الحدث السردي، ولم يعد للجانب اللغوي وجماليات التعبير تلك الضرورة التي يعتد بها في بنائية القصة أو الرواية.

كما أن الخاطرة الأدبية لم تعد عنوانا مغريا، فالكثير من الخواطر تصنف على أنها قصائد نثر؛ وذلك ناتج عن غياب رؤية يمكن أن تميز بين الخاطرة وقصيدة النثر أو النثر الشعري لدى ممتهني هذه الكتابات، ولعل أهم العوامل المساهمة في تفشي هذا الخلط والعشوائية هو سهولة النشر وغياب الرقابة النقدية، وخديعة مجاملات وسائط التواصل الاجتماعي.

ورغم كساد سوق الشعر إلا أن عنوان الشاعر ببريقه القديم يبدو لا يزال يغري كثير ممن يبحثون عن تضخم الذات في اضفاء صفة الشعر على خواطرهم التي تفتقد حتى لجماليات النثر الفني.