محمد طهمازي
"ليت هذا الدم إذا سال على هذا الدجى
ليته يصنع للعالم فجره
ما لهذا الدم لا يصنع فجرا!"... نبوءة على لسان عبد الرحمن الشرقاوي.
يمنح الفن الإنسان فرصة عظيمة للتعبير عن ذاته في هذا العالم المزدحم بكل شيء وباللاشيء، سواء من موقعه كفنان أو موقعه كمتلقٍّ، ويلعب الفنان المؤمن بالقيم الإنسانيَّة، الذي يجيد توظيف مخياله الإبداعي، دوراً حيويَّاً في تشكيل المفاهيم والرؤى الحضاريَّة وتحفيز الأفكار الخلّاقة. يعدُّ الفن وسيلة لتكوين الهويَّة الحضاريَّة للفرد والمجتمع والحفاظ عليها، وهز أرقى طرق الحوار الحسِّي بين المجتمعات، حوارٌ يتجاوز حدود اللغات والانتماءات موصلا رسائل يمتدُّ خطابها إلى الأبد.
"يريد المضطهد أن يلغي شيئاً مُحدَّداً في المضطهد هو جوهر حياته، أو أحد أهم المستلزمات لحياته، لأنّه يريده نصف حي. النصف الآخر -الفوائض- هو الإرادة أو الحرية والكرامة. وهذه فوائض من المضطهد لا يريدها المضطهِد". وتأكيداً لكلام ممدوح عدوان لو بحثنا في جوهر أي سلطة قمعيَّة لوجدناه واحداً، وهو محاولة اغتيال الكلمة، وما الإنسان سوى كلمة! كيانه، حريته، ذاته، كرامته، تختصرها الكلمة.
إنَّ الإنسان من دون حريته في التعبير عن نفسه هو مجرد ميتة تمشي على الأرض. لهذا نجد من يمتلكون إحساساً عالياً بإنسانيتهم مستعدون لتقديم حياتهم عندما يتعرّض هذا الحق للتهديد أو السلب.
من كل ما تقدم كانت حركيَّة الحسين كفكرة تمرّد على الظلم والتي استقى منها وليد عبيد فكرة لوحته التي منحها جواً غائماً بألوان تُوحي بحمام دم تصاعدتْ زفرة أبخرته إلى عنان السماء.. إنّه مناخ المذبحة.
المنظور الفني الذي وضع وليد على أساسه معماريَّة اللوحة كان فوق مستوى النظر أي أنَّ الذي كان يبصر الحدث لم يكن الفنان ولم يكن أي من الناس.. لقد رسم اللوحة بعين السماء.. "وإنّه لبعين الله".. في ذات الوقت يقول بمنطقية علمية أن تقييم القضية، أي قضية، لا يكون من الأسفل حيث تكون رؤيتك كما يرى أي فرد من عامة الناس بل يجب أن ترتفع لتشرف على المشهد العام وتراقب وتتفحّص وتتابع كل الأحداث وكل التفاصيل وكل الأطراف وكيف تتحرّك النوايا وتتحوّل على الأرض ومن أين تأتي المسبّبات
وإلى أين تؤول النتائج.
يتقدم القافلة، الجيش، ماسك الرمح الذي تحمل حربته رأس الحسين.. وهنا نشهد ثنائيَّة بتعبير فلسفي مبطّن اعتدناهُ من وليد عبيد.. ثنائيّة قدريّة لرأس في الأعلى ورأس في الأسفل.
في الأعلى نرى تعابير الرأس المقطوعة هادئة باسمة، مستشرفة ما يحمله المستقبل وما ستصير إليه بذرة الثورة التي زرعها في أرض الرافدين الخصبة، وقد شغلت بؤرة الإنارة ونقطة تستوقف عين المشاهد، ليقول الفنان بأنَّ هذا هو بطل الملحمة الذي يحتل مركز جذب اللوحة.. ينظر بملئ عينيه إليك إلى العالم وكأنه يقول ها أنا ذا فأين أنتم.. ها أني قدمت قرابيني فأين هي قراب ينكم؟
في أسفل اللوحة نرى حامل الرأس، وليكن من قطعه، وفق الحدث ووفق الرؤية التشكيليَّة، ينكس وجهه مشيحاً ببصره عن المشهد متخذاً زاوية معتمة وكأنّه ينسحب خارج اللوحة.. لا يريد لأحد رؤية تعابير وجهه.. أهو الخجل، وهل يخجل القاتل!.. لستُ أدري وفق أي مفاهيم قيميَّة ينبني خجله.. أم هو الإيغال في سواد القلب والروح والفعل.. وجهه ينطق بما في داخله، إنّها النفس الأمارة بالسوء.. ولعل الرمح هنا يمضي بذاكرتنا إلى الرمح الذي طعن به جندي قيصر خاصرة المسيح المصلوب لينهي آلامه.. ولعله ذات الرمح وذات الجندي وذات الدم الذي أحرق وجهه وذات القيصر! ينشر الوجوم في البعيد سحابته على ركب السبايا وركب الرؤوس ويمتد إلى الجيش المغبر فلا ترى من رايات ترفرف، وتتساءل يا ترى من انتصر على من ومن هزم من.. وسيستمر هذا السؤال يشغل كل من يبقي بصره تائهاً في خلفيَّة اللوحة وما من جواب لأنَّ الجواب واضح ناصع مشرق كالشمس في مقدمة المشهد تنطق به تعابير وجه الحسين "ع" الذي يقول: أنا المذبوح وأنا المنتصر وأنا الشهيد وأنا الشاهد! ونختم كما بدأنا بوصية على لسان عبد الرحمن الشرقاوي:
"لا تنوحوا.. بل خذوا ثأر الذي يظلم منكم
والذي يقتل ظلما بينكم
فهو ثأر الله فيكم فاطلبوه
إيه يا أرواح كل الشهداء".