محطاتٌ في حياة عبد الجبار الرفاعي

ثقافة 2024/07/14
...

  نجاة عبدالله


سبعينية الرفاعي

أصعب مهمة يمكن أن يتعهد بها إنسان، هي إتيانه بجديد في موردٍ يباشره الناس كافة. الناس تتكلم بأجمعها، لكنّ من يجعل كلامه، مجرد كلامه فناً سيكون قد راهن على المحال وكسب.
المؤمنون بما يفعلون لم يجترحوا مواضيعهم من عدم، بل فتشوا أولا وقبل كل شيء عن الجديد فيهم، عن النادر الذي يستوطنهم ثمّ أضاؤوا العالم من حولهم فبدا غضاً كأن ولد للتو.
تحل هذه الأيام الذكرى السبعون لولادة المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي. سيكون أمامنا درسه الأجلى: أنه جعل من موضوع تناوبت عليه الأفهام قديماً وحديثاً حاضراً كما لو أنه بكر ابن يومه، وجعل من موارد يظنها الآخرون قد بليت دالة بعمق على رهانات الحاضر.
هل يمكن أن يصبح علم الكلام جديداً؟ وهل بمقدورنا التقاط النزعة الإنسانية من اشتباك العقدي بالفقهي في المدوّنة الدينية؟ وهل بإمكان الإيمان أن يغدو قنطرة للتلاقي، بدلا من أن يكون سياجاً لتحديد الملكية ورسم معالم الهوية؟
هذه الأسئلة وسواها هي مؤونة الدرس الرفاعي، الذي استغرق الجزء الأوفى من عمره، الذي بلغ اليوم سبعين ربيعاً، فسنوات الفكر ربيع كلّها.
سنحتفل بسبعينية الرفاعي هنا في {الصباح} بطريقتنا الخاصة. سنخصص يوم الأحد من كل أسبوع صفحة تحت
 هذا العنوان {سبعينية عبد الجبار الرفاعي}، داعين الزملاء والزميلات للكتابة فيها.
كل سنة ومفكرنا الأستاذ الرفاعي بوافرٍ من الحياة والكشف.
مازلتُ أعيش أجواء تلك الغرفة الطينية في إحدى قرى الرفاعي في مدينة الناصرية، وأنظرُ إلى طفلٍ وديع حائر لا يعرف أين يشيح بوجهه، حين يخترق المطر شقوق السقف، وحين يخدش هذا الأزار الصوفي "الذي حيك مباشرة دون معالجته"، جسده اللدن، ما زالتْ عيناي معلقتين بهذا الطريق الطيني الطويل، والذي يتجاوز الست كيلوا متر ذهابا إلى مدرسة المتنبي الابتدائية والخمسة عشر كيلوا مترا ذهابا الى مدرسته في المرحلة المتوسطة في قلعة سِكر، وتتسمر نظراتي أمام تلكَ الأقدام الطرية وقد اخترقتها الأشواك والمحن والمصاعب، ووجدتني ما زلتُ ابكي وأنا في السادسة من عمري عائدة من مدرستي المتنبي التي تبعد عن بيتنا 300 متر، في كل مرة أعود لأمي، وقد تلطختْ ثيابي بالطين جراء دفع الصغار والصغيرات لي أثناء انتهاء الدوام.
ولأني مولعة بالأمهات حتى أني وجدتُ ذات عام عباءة معلقة على شجرة، قلتُ لها اعذريني يا أمي لا يتوجب علي المرور من أمامكِ أنا انحني اليكِ وأمضي.. فكيف بتلك الأم العظيمة "أم عبد الجبار" التي تفتتح الصباح بالصلاة على محمد واله وصحبه صلوات الله عليهم اجمعين، ليهدأ الفجر بهذا الدعاء ويستيقظ ابنها الغض وهو يستنشق طعم الإيمان وحلاوة الفجر، ويبحث في الظلام عن فسحة ليؤدي الصلاة.
أحد الرعاة الذين تحدث عنهم الدكتور الرفاعي في مجمل حديثه عن أيام الطفولة والصبا، كان يتكلم مع ربه ويطلب منه بعض الطعام والشراب وبعض النعم، مخاطبا إياه بلغة كأنه يخاطب صديق له، وكان هناك رجل يستمع اليه ويستهجن مخاطبته للمولى بتلك الطريقة.. ذكرّني بما روته لي أمي في طفولتي حينما بدأتُ القراءة والكتابة وتعلمتُ الصلاة، كنتُ أضحكُ في سرّي على صلاة والدتي المرتبكة واعلمها الآيات بشكل صحيح، إلا أنها تخطئ مرة أخرى.. نهرتني بقولها "يمه" أنا أحسن من "تخيته" التي تصلي، وتقول طيلة الفرائض "تخيته تعرف ربها وربها يعرف تخيته"، وقد قبل الله صلاتها، بل أن شيخ الجامع الذي اعترض على صلاتها يقال إن هناك ملكا اتاه في المنام يقول له لقد ذهبتْ كل صلاتكَ لتلك السيدة.. وحدث ذات الأمر مع أبي الذي أمضى فترة كهولته وعجزه قربي بعد وفاة والدتي.. والذي كان مصرا على الصلاة وأداء الفرائض، وهو في أشد حالته مرضا وكنتُ قد اخذتُ العبرة مما نهرتني به أمي في طفولتي، ولم أعد أصحح له وهو يقول "حي على الفلاة، حي على خيرٍ انعمل"، مع قراءته لبعض الآيات القرآنية بصورة غير صحيحة، تذكرتُ جارنا في الجنوب "حجي طارش" الذي كنتُ استمع اليه حينما يصلي فجرا عبر السياج الذي يفصلنا عنه، حين كنا ننام على سطح بيتنا وهو يردد "عصيتي وعبيتي والله وأكبر".. "حجي طارش" حلم به نصف حينا أن الملائكة كانتْ تسير خلفه حين شيعوه إلى مقبرة السلام.
وهكذا مع الراعي الذي قُبلت صلواته جميعا بمرسوم ديني صدر عن قلوب محبة راضية. هذا هو الإيمان الفطري الحقيقي، الذي لم تخرجه المدارس أو الأيديولوجيات أو المؤسسات الدينية، فمن نما في داخله الإيمان يتعذر على كل المناوئين أن يشككوا بقربه إلى الله.
 حينما وطأتْ قدماي أرض القاهرة الحبيبة، وكان قد اعتمل في روحي "فوبيا" الوحدة، التي عانيتُ منها بعد رحلتي السابقة والملابسات التي حصلت معي بشأن الإقامة الفندقية وتوقيت جلسة القراءة، ولكني أعتقد في كل يوم أن الله كفيل بإزاحة تراب الغربة عن قلبي الملغوم بالوحشة ونفض تراب الذل عن وجهي الذي يحدق في الأرض، خشية أن تقع عيناي على من هم أرفع منزلة، هؤلاء لا يجب النظر اليهم، بل وضعهم بحنو بالغ في العقل الواعي والباطن والنهل من أرواحهم الهادئة المسالمة المفعمة بالإيمان.
 في فندق "تيوليب" في القاهرة كنتُ بمعية بروفيسور عراقي مدعو لمعرض القاهرة الدولي للكتاب أيضا.. كان معي في نفس الطائرة، التي أتت بنا من بغداد إلى القاهرة، سأكتب عنه بعد إكمال المؤلفات المذهلة التي زودني بها، والتي جعلتني في حيرة أيهما أقرأ وأنا أبحث كدودة القز لكثرة الهوامش في مؤلفاته.
كنتُ أتناول أفطاري بمعية البروفيسور في مطعم الفندق، في اليوم التالي تأخرتُ عن الوقت المعتاد للإفطار ووجدتُ البروفيسور يجلس مع مجموعة من المفكرين والنقاد العراقيين، وللخلق الرفيع الذي يتميز به رفيقي في الرحلة دعاني للنهوض والإفطار معهم، إلا أني لم أذهب قلت له كيف تفعل هذا من تخجل من ظلها، من كتب عليها الوحدة قياما وقعودا وسفرا وحديثا وترحالا لا عجب أن تكتب عليها الوحدة افطارا.. ابتسم في وجهي وذهب.
كان هناك وجهٌ مضيءٌ ينبعث منه النور اينما وليت نظراتي، يا الهي إنه الدكتور عبد الجبار الرفاعي.. ضمن الكبار الذين يفطرون معا، بعدها استجمعت كل شجاعتي في صالة فندق "تيولبط الذي نقيم فيه نحن ضيوف معرض القاهرة الدولي للكتاب، بعد أن حياني بوداعة من فرط الإيمان في حديثه ومحياه ازددتُ جرأة وأنا أطلب منه أن التقط صورة معه، أنا التي لم تطلب من أي من المشاهير الكثر الذين التقيتهم في حياتي، بل حتى الرؤساء من التقاط صورة معهم، كنتُ وما زلت في ذهول تام من تلك الطاقة الروحية العجيبة التي غمرت المكان، وهذا الهدوء وتلك السكينة اللذان يملآن محياه، كان بودي أن أقول له إنك منشغل كثيرا وعملك بالدقائق وليس بالساعات، كيف لي أن أقول لكَ إن رأسي الصغير هذا يمتلك ورشة لأسئلة كونية، وأن هذه التقوى التي خص الله بها تقاطيعكَ قد فقدتْ في زمننا هذا، كما فقدتْ أبوابنا الخشبية العملاقة.
في الفصل الأول من كتاب "نسيان الإنسان" يقول "إن الطفل الكامن في داخلي هو من يوجه حياتي بجانبها الإيجابي، الحياة البسيطة والتدين البريء والطفولة الشقية".. هو طفل يولد كل يوم، حيث وفر له الإيمان.. الطمأنينة والحماية والسكينة.
 وكم أوجعتني تلك العبارات وكم استطالتْ روحي لتشتبك بكل ما أوتيت الحياة من غربة، وهو يقول "يولد الإنسان بمفرده ويحيا بمفرده ويموت بمفرده وما بينهما من معاناة فردية بحتة يتحملها الإنسان لوحده" هو يتحدث عن رحلته الشاقة في الحياة، وتلك الغربة الكونية التي خاض غمارها والتي لم ينقذه منها سوى الإيمان الحقيقي والتوجه لله بعفوية المؤمن.
ويقول إن "الحرية أشق من العبودية، وأن تكون عبدا يعني أنكَ لست مسؤولا عن أي شيء حتى عن نفسكَ".
  محطتان قاسيتان في حياة الرفاعي غربة الطفولة، التي ألمتْ به جراء طبيعة الحياة الاجتماعية في القرية التي كان يعيش فيها، حيث إن أهله من عشيرة تختلف عن عشيرة القرية التي يسكنونها، والثانية هي اغترابه عن ذاته في الإسلام السياسي.. ظنا منه أنها ستكون له كهفا وملاذا.. هذان المحطتان زرعتا في روحه غربة عميقة لتصبح غربة ذات فيما بعد.
ورث الأخلاق عن معلمي الأخلاق الصامتين أمه وأبيه، يتحدث عن أسماء أخوانه وأخواته الذين فقدهم أثر الأوبئة، وما للأسماء من علاقة مع الطبيعة عسى أن تقيهم من شرور الموت، عن والدته التي غرستْ في روحه الإيمان، يتحدث عن بيوت القصب، وعن التنور الطيني والفجر الذي يبدأ بذهاب أبيه إلى الحقل ونهوض أمه للصلاة. شردتْ بي الذاكرة بعيدا إلى بيت أبو طالب المتاخم لبيتنا في حي عواشة في ميسان، كان يسمى بـ (الجمالي) وهو عبارة عن بيت من قصب مطلي بالطين، وفيما بعد تحول إلى قصر رنان حينما غادره أهله وسكنه غيرهم.
تشكلت النواة الأولى لنبوغ الدكتور الرفاعي وعلمه، حينما بدأ ولعه بالطوابع البريدية، ومن ثم رغبته في اقتصاص صور الفلاسفة والمفكرين وإعلام الدول بألوانها الأحمر والأسود والأخضر من المجلات التي يشتريها بمصروفه اليومي  وإلصاقها في الغرفة الطينية لبيت الطفولة.
في مرحلة الرابع ثانوي في الشطرة بدأ يقرأ لعلي الوردي، أنا اتخيل هكذا أن عبد الجبار الشاب الهادئ الوديع سحب هذا الكتاب من رف المكتبة، وهو بهذا العمر ليتعرف على العراق وتاريخه ثم ينبهر فيما بعد بطريقة طرح الأفكار واللغة السلسة  اللماحة التي هي خاصة بالدكتور الوردي حصرا "لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث"، ثم كتاب الدكتور علي شريعتي "معالم في الطريق"، الذي قرأه أبناء جيله وتهافت أغلب مريدي شريعتي لمعرفة تلك المعالم. وهنا أبهرتهُ لغة الكتاب الشاعرية وحماسة شريعتي وروح التمرد التي يمتلكها.. لكن الدكتور الرفاعي استطاع فيما بعد التوصل إلى أن لغة شريعتي هي لغة ثورية مشبعة بأفكار ايديولوجية لا تجتمع مع هذا الظمأ الوجودي الذي ينشده.
"علي شريعتي وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي وحسن البنا وكل مؤسسي وكُتاب الإسلام السياسي السني والشيعي، كان هو البداية الممهدة لخروج الدين من مجاله الروحي والأخلاقي واستحواذه وتسلطه على كل شيء في حياة الإنسان".. هؤلاء الثلاثة وظفوا الدين لصالح الثورة "بينما يجتمع العقل والإيمان عند ابن سينا وابن الرشد وابن عربي وديكارت وكانط وشلاير ماخر وكيركيورد".
لغة الدكتور الرفاعي مشبعة بالرحمة والمحبة، وكنتُ كلما قلتُ له من أين تأتي بتلك الهالة النورانية يرد علي.. "الله هو الرحمة والمحبة والسلام هذه صورة الله بقلبي، وهذا هو الدين الذي يشرحه مشروعي في تجديد الفكر الديني في الإسلام، وأدعو اليه وأعيشه وتتحقق فيه حياتي بطور وجودي رحماني أخلاقي جمالي، وأعيشه في عائلتي ومع كل الناس حتى المختلف قي دينه ومعتقده وثقافته".