د. نصير جابر
في العراق – ولعقود طويلة خلت- تبدو مهمة المفكر صعبة ومعقّدة للغاية، بل قد تكون مستحيلة، لأنّه سيكون دائما على المحكّ مع "الأفكار" السائدة في المجتمع لحظة حضوره بطروحات حرة قد لا تكون بالضرورة مشابهة ومتناغمة مع غيرها.
ومن هنا سيكون عليه سلوك طريقين – لو أراد البقاء في بلده- أما التخلّي عمّا يؤمن به ومهادنة السلطة و"أفكارها"، وأما الصمت المطبق، وسيكون لحظتئذ قد حكم على نفسه بالموت المعنوي البشع الذي لا يمكن أن يتقبّله أي عقل حركي فعّال، أو اختيار الطريق الثالث الشاق والصعب، لكنه الأسلم وهو الهجرة بما يحمله من آمال وتطلعات معرفية إلى فضاء آمن يستطيع فيه أن يقول كلمته من دون قيد أو شرط.
وهكذا فعل المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي الذي هاجر إلى ايران منذ عقود طويلة، ولم يرجع إلاّ بعد أن تنفس الوطن رائحة الحرية، وصار من الممكن أن تقول ما تؤمن به من دون خوف من رقابة مجرمة صارمة.
ولسنوات طويلة قبل أن أقرأ له كتابا منفردا، كان هذا الاسم يعني لي مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" فقط، فمنذ ظهورها عام 1997 كانت توفر بموادها الرصينة الخصبة مساحة من متعة معرفية راقية لا تقدّر بثمن، ومهما كنت تنتمي إلى حيز فكري بعيد جدا عنها وعن توجهها فلن تجد فيها إلّا مجلة قريبة منك، لأنها تحاول أن تجايل الراهن المعرفي وتخاطبه بمودة وتَفهم ومن دون عدائية أو انتقاص!
وهذا الانطباع سينسحب على صاحبها ومؤسّسها الدكتور الرفاعي الرجل الهادئ البعيد جدا عن الصدام والعراك والجدل الذي لا طائل منه.
والمتواضع الذي لا تكاد تسمع صوته وهو يتحدث حتى لا يشعرك بفوقانية ما، أو تعال أو تكبّر يصاحب عادة أغلب المشتغلين بهذا المجال بوصفهم مُلاك حقيقة مطلقة، فالرجل عكس ذلك تماما، إذ يرى في الحضور الفعّال هو الغاية من وجود المفكر وسط صخب الحراك الثقافي، لذلك عندما رأيته أوّل مرة خلال استضافة اتحاد الأدباء والكتاب له في النجف الأشرف قبل سنوات، شعرت أن انطباعي الأوّل عنه – الذي كونته من خلال المجلة وتوجهها- انطباع صحيح جدا.
فالرجل غارق بتأمل العالم الرصين ومنشغل بهموم الإنسان المتصالح مع الذات، الباحث عن حلّ ناجع وأسئلة جديدة يمكن أن تسهم في زيادة الألفة بين الناس وتبتعد عن التعصب المقيت والتطرف الاجرامي أو الخوف والقلق من ماض شائك تعتريه المشكلات الكبيرة والمعضلات المستغلقة ومستقبل غامض مربك قد تضيع فيه هوية الإنسان وتنمسخ.
لذا بدا لي الرجل غير مكترث تماما بما يمكن أن تفعله الأضواء نحوه كمثقف بارز واسم لامع في ثقافتنا المعاصرة. إذ عاش للكتب والكتابة وكأنها مهمته الوحيدة في الحياة حتى إنه قال في آخر كتبه "مسرات القراءة ومخاض الكتابة.. فصل من سيرة كاتب" الصادر عن دار تكوين- الرافدين في الكويت عام 2023 «لم أجد نفسي خارج الكتابة منذ أكثر من 45 عاماً تقريباً».
إن الجهد الكبير والشاق الذي بذله الرفاعي يأتي من دقّة اشتغالاته الفكرية في مساحات الأديان، وما لحق بها من امتداد تأريخي، وتأكيده الدائم على النزعة الإنسانية فيها، وإنّها -أي الأديان- منظومات روحية أخلاقية عالية جاءت من أجل الرقي بروح الإنسان نحو مصاف عالية سامية.
ومن يتأمل نتاجه العميق سيرى ذلك واضحا في كتبه مثل "انقاذ النزعة الإنسانية في الدين، تمهيد لدراسة فلسفة الدين، الدين والظمأ الأنطولوجي" وغير ذلك في عشرات المقالات المؤسّسة لهذه الفكرة النقية النبيلة، التي تبدو من الأهمية بمكان لتشكّل علامة فارقة في مسيرته الفكرية الطويلة.
حاز الرفاعي العديد من الجوائز المحلية والدولية الرفيعة تقديرا لجهوده المميزة. ولكن أزعم إن من بين أهم تلك الجوائز التي استحقها في حياته هي اتقان دوره التنويري من دون تشتّت وتحديد مجاله المعرفي بدقّة والاندكاك فيه حدّ التماهي من دون الدخول في صراعات جانبية لا تغني المعرفة شيئا.
ومن الضروري القول أيضا إن منجزه الفكري كان مادة خصبة للعديد من الرسائل والأطاريح الجامعية في دول عديدة، بوصفه رائدا من رواد علم الكلام الحديث ومفكرا عميقا أغنى المعرفة بفكر إنساني خلّاق.