ديكتاتوريَّة المثقف وهزيمة المفكر

ثقافة 2024/07/15
...

  جاكلين سلام



كن محاوراً ناقداً ولا تكن عدوانياً لعيناً 

كتب وول سوينكا، وهو روائي نيجيري وناشط سياسي، شاعر حائز على نوبل" أكبر خطر على الحرية هو غياب النقد". 

وتبقى طريقة النقد وكيفية إدارة الحوار دليلا على سمو صاحب القلم الذي له ملكة استخدام مجساته الفنية لاستخلاص أفكار جديدة لم يصرح بها الطرف الآخر. وهي الغاية من التحاور عن قرب وعن بعد. فالعدوانية ليست نقداً بل ممارسة مرفوضة أخلاقياً وأدبياً. 

عالم اليوم شديد التقيد لكنه ليس أذكى مما كان في السابق أدبياً وإنسانياً. الآن تتصارع وتتلاقح الحضارات والأديان والقوميات والآراء متعددة في منصات التواصل الاجتماعي المعاصر بشكل لم يسبق له مثيل. وبحكم السفر والهجرات واللجوء والإقامة بين هذا البلد وذاك، أصبح الفرد مضطرا أو مخيراً على أن يكتسب من ثقافة الآخر، يتعلم أن يحاور دون أن يقاتل، ينتقد دون أن يشتم ويلعن بشكل مبطن وصريح. 

كما على الإنسان المعاصر في أي ميدان أن يتقبل المختلف دون أن يتعدى عليه ويحاول تصفيته معنوياً، وإبادته. وهذه إيجابات تضاف إلى كونية المعرفة وسهولة انتشارها بالطرق المعاصرة، التقليدية والذكية. وإذا وجدت نفسك على منصة بحكم كفائتك أو بمكاسب انتهازية، كن مدافعاً عن رأيك ووجهة نظرك دون ضحايا. وبالطبع تستطيع أن تكون مبتذلاً في هذه الفضاءات مادمت لا تملك أبجدية الفكر وأولوياته فيما أنت تحاول أن تبرر صوابك المطلق الذي لا يدحض.


"كلما نجح صديق، أموت قليلا"

غور فيدال

النقد الثقافي والتقييم الأدبي والاختلاف فكريا ومعرفيا، له طرق وسلوكيات يعرفها أصحاب المهنة الذين شذبتهم التجربة والمعرفة والخبرة في مهارات الحوار والاختلاف دون طعن أو تسفيه أو انتقاص من شأن الآخر. بعض المثقفين العرب يذهبون إلى الحوار مع الآخر لغايات لا علاقة لها بمنتج الآخر بل لإبراز أنفسهم وتضخيم مقامهم على حساب المقابل. ويلجأ هؤلاء في الوقت ذاته إلى الكيل بمكيالين وحسب الشخصية التي يتحدثون أمامها. تراهم يتعاملون مع أدبيات المرأة التي لها جانب من السلطة الأكاديمية بطريقة مغايرة تماما لكتابات المرأة التي لا سلطة لها إلا المعرفة الحرة دون تبعية. تثمين وتدليس حسب المقام وليس قوة الفكرة. 

ويكون تقييمهم كذلك في تعاملهم مع الإبداع الذي يكتبه الرجل- صاحب السلطة الثقافية. هناك تثمين بفرادة المنتج الإبداعي. وهنا لا تكون غاية المحاور أن يكتشف أعماق الكاتب ورؤيته الفنية وأدوات صنعته وكيفيتها، بل همه وغايته أن يتصدر المشهد فيكون الآخر وسيلة ليس إلا. أمثال هؤلاء، عينة صارخة على الانتهازية وعدم المصداقية. يحدث هذا في الفضاء الافتراضي ويحدث وجهاً لوجه في الملتقيات الفضائية والمنتديات في المهجر وفي الميديا العربية. 

عزيزي المثقف، حين تعتريك موجة عاتية من الحسد والغيرة لأن إحدى الصديقات أو الأصدقاء الكتاب أنجز كتابة جيدة وحاز تقديرا ونجاحا مرموقا، ما عليك إلا أن تغضب من نفسك قليلا بينك وبين نفسك- إن كان لا بد- ثم تتوجه إلى الكمبيوتر وتحاول أن تكتب نصا أرقى. حاول ألا تبدد طاقاتك في الدهاء والتذاكي. وعليك أن تقي نفسك من الموت حزناً وغيرة من نجاحات الآخرين. لا وقت للحقد والغيرة فكلنا نستحق الشفقة في شعاب الأدب العربي. واجعل من غيرتك محضراً إيجابياً متحرراً من أمراضك النرجسية وايقاعات الإيغو العاتية.

قال غور فيدال، وهو روائي امريكي عاش بين ( 1925-2012) : "كلما نجح صديق، أموت قليلا" وكان كاتباً منشغلا بالسياسة والمواضيع الاجتماعية والتاريخية في أدبه كما في حياته الشخصية. 


المثقف الخائن للمدنية 

محاولة التصفيات الجسدية والمعنوية والإبادات عمل إجرامي ترتكبه السلطات العاجزة عن استعمال اللغة والقول لخلق التفاهم بين الحضارات والأديان والقوميات. وليس لائقاً بأي فرد يشتغل في حقل الأدب أن يمارس فعل إبادة فردي بكل قواه المعنوية والمادية لمجرد عدم تطابق بين أفكار و نظرية الأول والآخر. هناك مثقفون لهم نفوذ ويفعلون ذلك ويقبضون ثمن عملهم المأجور مع شهادات تكريم خلف الكواليس وأمام المايكفون.

السلطات العربية والدولية العثمانية والصهيونية ارتكبت عدداً من الإبادات والمجازر بحق الشعوب وبحق الأقليات التي تتعايش في نفس الحيز الجغرافي، ولسنا هنا في صدد حصرها وتلك السلطات خلفت ثقافة وعقليات فردية جاهزة لقتل بذرة الفكر المختلف. وهذا يدعونا للعودة إلى دراسة شخصية المثقف التابع والذي يخدم مصالحه بانتهازية مزدوجة. 

حاول ألا تصبح عميلاً مأجوراً وسجادة للسلطان كي تحصل على سلكة ومكسب مادي وتحظى بالدعم، بمنحة أو وظيفة مرموقة في مكتب ما. الوقت في يدك فرصة لتحرير رأسك من الخوف الذي يدمر جدار الإبداع فيفقد الكاتب الموازنة بين الجمالي والإنساني الحر. الزمن ملائم في كل المنعطفات لتحرير الأقلام من صمت مفزع ما بين ديكتاتورية تنهار وأخرى تحل محلها وتكمل سلسلة القمع وبأدوات مختلفة. 


الكاتب والديكتاتور وزملاء المهنة

بعض الكتاب يشتمون الديكتاتور، وبنفس اللسان وتلك اليد يشتمون زملاء المهنة من نساء ورجال إن حصل خلاف أو اختلاف في طريقة النظر إلى قضية ما، أدبية أو فكرية أو سياسية. بعضهم وبشكل نرجسي، يزيد معدل قبحه حين تكون قبالته امرأة ناجحة لا تشبه أحلامه عن النساء. الجندرية تتمظهر من وراء الأقنعة. وهؤلاء لا يعول على صوتهم ضد الديكتاتوريات إن لم يقتلوا الطاغية الصغير الذي في رأسهم. وهؤلاء مؤهلون لأن يكونوا في مقام الديكتاتور إن سنحت له الظروف المستقبلية لذلك يبقى نضالهم خلبي.


لا تصبح جحيم من يختلف فكرياً

الآخرون جحيمك حين تجعل ممن يختلف معك في الرأي عدواً تجهز عليه قبل أن يفعلها هو. نحن نردد ما قاله المفكر الفرنسي جان بول سارتر "الآخرون هم الجحيم" ونعلم أننا لا نستطيع العيش دون الآخر رغم أنهم يحضرون المجتمعات والأفراد لمرحلة سلطة الذكاء الاصطناعي على الإنسان الضعيف أمام جبروت قوة المال والتكنولوجيا التي تديرها سلطة رأس المال التي بلا روح.

مرارا سمعت وقرأت تعليقات لزملاء وأصدقاء عن مثل هذه الممارسات في بيوت الثقافة العربية ومنابرها، وأقول: لم ينج أحد منا أدباء وشعراء وأفراد من مغبة مثل هذه السلوكيات. ويجدر بنا أن نذهب في العمق كي نفهم سيكلوجيا الأديب الذي في بطنه طاغية. سيبقى النقد والحوار أهم الطرق في التفاهم والوصول إلى أركان البناء المدني الإجتماعي الإنساني.

كتب الأديب المهجري ميخائيل نعيمة :"كم من ناس صرفوا العمر في إيتقان فن الكتابة كي يعمموا جهلهم لا غير"

وأقول: كم هناك من كتّاب عرب صرفوا وقتاً في القراءة والكتابة وكانوا على أرض الواقع أنذالاً رغم المعرفة التي جمعوها من استظهار الكتب والمقولات المنسوخة عن كبار فلاسفة العالم ومفكريه"