رأس الحكمة مخافة اللّه

ثقافة 2024/07/15
...

  ياسين طه حافظ

ليس مشهداً غريباً ولا طارئاً أن نرى جلاس مقاه وشخوص مجالس عليهم سمت التقى وتعلوهم الوجاهة يرددون مقولات شائعة كما يرددون آيات. ليس ذلك جهلا من أولئك ولا أولئك غافلون وهم يذمون الدنيا ويلعنون الدهر وسوء الناس والحياة.

تعرض هذه الأقوال أو المواقف، بتعابير منمّقة اللفظ، بأن كل شيء باطل ويعوذون بالله من زائفي النفوس والعقول، وكم كَذَبة هم لا يُصْدِقون قولاً، ولا فعلاً وشهادتهم باطلة إن شهدوا.

نحن نعرف أن هذه هي مؤونة الشيوخ إذا استاؤا وهو هذا جو الانزواء، لكن أيضاً لا تظن أن كل متذمر بريء يقول ما يراه مفيداً، فكل كلمة خَدوم، وقد تعمل لشرّ وقد تعمل بأجر! وأنت قد ترى في قولهم "القناعة كنز لا يفنى" أو في القول العظيم الآخر "رأس الحكمة مخافة الله" ما يؤكد غاية سوءاً- كان ترضى بفقرك أو عوزك أو أن ترتضي الخضوع لمتسلط غشوم من سلاطين الدنيا وحكام الناس.

ليس في القولين دعوة للهزيمة ولا لترك الشر لأهله والانسحاب من الحياة والأفضل. 

لكن نحن لا نرى في القول سخطاً فنرتضيه ولا رفضاً فنشارك فيه. ولا دعوة لعمل مضاد يضع الأمور في نصابها. وإلا لباركنا القائلين بها وفرحنا بسماع ما يقال. أيضاً وراء القولين خبرات أخرى ومعان أخرى ربما ضاعت ولم نلتفت لها.

ما عادت "القناعة" مطلباً، كانت مطلباً حين كانت زهداً، ولا عاد التواضع مرغوباً به، كان كذلك حين كان نفوراً من الكبرياء والعنت والصلافة.

كراهة السوء أو الخطأ قد يُظهرها حزن وعدم رضا. وإذا استفحل السوء أو الشر يستفحل الغضب منه أيضاً ويشتد التمرد، وقد يتم الاصطدام إذا اتسع الغارق به القوتين. أما وصايا الخائبين ومن حَكَمَ اليأسُ حياتهم وناسهم، فما عاد يرتضيها وعي ولا أدب مدني وتهذيب. للوصايا أعمارها وبعدها تتجدد وتخلفها سواها طازجة متوقّدة بروح زمنها وبالاحتياج الجديد. لكن ما هي الحكمة أن لم تكن موقفاً من حال أو مبدءاً تنظيمياً مقترحاً؟ نعيد السؤال ولكن ما هو الدافع لذلك وأية الأهداف الأوسع استدعتْ ذلك المبدأ أو التنظيم أو وظفته لمرادها؟

ما يعنيني من جملة هذا الكلام، لماذا تُوقف هذه "الحكمة" أو هذه اللافتة، اختياراتي لتفرض خياراً مستخلَصاً، أو تعويضياً؟ ومرة أخرى نتساءل، وهل للحكمة وجه واحد أم هي مفتاح لمنطقة تأويل واسعة؟ هل ترداد "رأس الحكمة مخافة الله" لأن المقصود بها واحدٌ ولا غير: هو خشية غضب الله وأن الحل فيها بتحاشي ما يغضبه؟ هل تخفّتْ السلطة وراء "الله" بدليل أن خوف الله لم يتحقق في الجريمة أو الخطأ، وما بقي هو خوف منظومة الحاكم أو الهيمنة؟

وقد لا يكون هذا ولا ذاك ولكن كشف مجريات الأحداث السابقة وأحوال الناس أدى لأن تنتهي بهذه الخلاصة، أو هذا الإيجاز، أو بهذه الحكمة المنقذة، حلاّ آمناً وسليماً، يكفي الشر ويحافظ على ما تيسر من خير؟

هي هنا ليست نمطية أشكال أو مقولية أو مرتكزات تفكير نحاول في مسعى ما الابتعاد عنها’ ثم نسمع صوتنا الداخلي بالعودة إلى الهيكل أو إلى السكينة بعد المروق؟

لكن لماذا "الحكمة" وما المقصود منها؟ وهل ارتباط التسمية بالحكيم، المتعقل، أو الطبيب الشافي، يجعل الموضوع أبسط وأوضح مما كنا نراه، فنحن نسمع رأي من جرّب ورأى أو عاش، لإسعافنا في تجربتنا أو رؤيتنا أو معايشتنا للظرف أو الحدث؟ وهل ما أفاد هناك يفيد هنا؟ ماذا عن تطور واختلاف مضامين الأزمنة وتطور واختلاف الحاجات البشرية، واختلاف وتطور أدوات وحدود المنبع؟

هل يكون المقابل هو الملل والسأم من الأدوات القديمة تدفع اعاقاتها للتمرد بطاقة ادراك للأفضل، وبطاقة الاحتياج الجديد وتوهج روح العصر الذي صار أكثر أزدحاماً واشتباكاً وحركة إلى بدائل عيش، إلى تحقيق رغبات وراءها وعي آخر؟ ثمة محرّك مستمر التوليد متزايد التوهج ضد موانعه أو روادعه القاتلة أحياناً أو المدمرة. أم بين هذين نرى الأسلم هو احترام مبادئ الكون الأولى، وهي منظومة ملغزة عن الادراك. البشري غامضة البدء والمنتهي، ونحن نعيش ضمن ازليتها زمناً جدَّ قصير لننهي بعضاً فاقد المزايا من موادها الأولية أو من مكونات أحيائها، غير مستقرة الأشكال والوعي بأنا بعض من منظومة هذا الكون محكومون بأزليته؟

هذا يعني فيما يعنيه أن كل التمردات، أن الخروج، عما تحقق، عاقبته فادحة لحضورنا الآني أو لحياتنا. وهذا اتجاه في التفكير يسانده حتى علماء في الفيزياء والبيولوجيا، فضلاً عن مفكري المجتمع والفلسفة والأخلاقيين الكبار، يقولون بهذا وإن بأشكال مختلفة. إذاً بعد كل الأفكار، هذا "هو الباقي" كما يقولون في المقابر وهذا هو المستقر والذي نعود اليه، "ذلك أن نقرّ بوجودنا الكوني، أي المحكوم بقوانين الحياة على الكوكب وشروط بقاء هذه الحياة وأن "رأس الحكمة مخافة الله" هذه ليست حكمة عابرة، هذا شرط بقاء الحياة على الأرض. 

علينا قبل الرفض وقبل القبول بمبادئ العقل المفاهيمي العام ونقاط معالمه المتمثلة أو المستخلصة من المجربات والأحداث، وأن نعي بأن عواقب الأمور ترسّخ أحكاماً استسلامية تواسي وتشغل الفراغ الجديد بحلٍّ "تَقَوي" يبدو بسيطاً وهو عميق وأزلي حاسم! الترسيمة الاجتماعية لأي مقولة، لا تعبر المدى الفردي للفهم الاجتماعي للسياق العام. ولهذا تكون لنا قراءتنا "القصدية"، نحن الذين نتجاوز القراءة الأولى أو سطح المفهوم. "رأس الحكمة مخافة الله" مقولة ايمانية، دينية، ولكنها تحذير علمي ثابت، وأخلاقي لا نستغني عنه. ليس ما قلته استبطاناً ولكنه قراءة تاريخ وإدراك لحاضرِ كونٍ وشروطِ حياة. "رأس الحكمة مخافة الله"، واحد من أخطر وأوسع التحذيرات للبشر على الأرض، كما هو تحذير أخلاقي غاية في الهدوء وجمال الإشارة.