فانتازيا شوبنهاور

ثقافة 2024/07/15
...

  د. سمير الخليل

بدءاً من سيميائية العنوان بوصفه النص الموازي تضعنا قصص {ضحكات شوبنهاور السعيد} الصادرة عن اتحاد الأدباء للقاص رأفت عادل إزاء عوالم فانتازية منها ما هو عجائبي أو غرائبي بالارتكاز على الفرق بين هذين المتجهين اللذين ينتميان إلى الفانتازيا بشكل عام على مستوى التجنيس، فالغرائبي هو خروج على المألوف وكسر قوانين الواقع وهو محتمل الوقوع، أما العجائبي فإنه أيضا تجاوز للقوانين الفسيولوجية والفيزيائية ومنطق الواقع الاجتماعي أو الطبيعي لكنه يتسم باستحالة الوقوع لأنه حرف للقوانين الفيزيائية والبيولوجية.

لعلّ أهم خصائص البناء الفنّي في نصوص هذه المجموعة أنّ القاص حاول أن يوظف شكلاً فانتازيا مستمدّاً أحداثه من تضخيم المفارقة، ونقل الوقائع من نسقها الواقعي إلى النسق الفانتازي بنوعيه آنفي الذكر، وتبدأ المفارقة "الفانتازيّة" كما أسلفنا في عتبة العنوان الذي لم يحمل بوصفه عنوانا لأية قصّة من قصص المجموعة كما هو معتاد، وهذا خرق لسنن التقليدي والمتعارف عليه من اقتران عنوان المجموعة بإحدى القصص لتحقيق وحدة دلالية وخلق علاقة بين المتون.

والعنوان كونه مساحة تضيء الفضاء الأفقي والعمودي للنص. 

غير أنّ القاص كسر تراتبيّة هذا الاقتران وظل العنوان يشكل دلالة وبعداً مضافاً ومختزلاً للمعنى الكلّي الذي تنطوي عليه المجموعة وتوظيف هذا الاختراق دلالياً ورمزيا لروح المفارقة الفانتازيّة، فالمعروف أنّ شوبنهاور عرف بفيلسوف "التشاؤم والسوداوية" وقد ورث عنه فردريك نيتشه فيلسوف الجينالوجيا فلسفة التشاؤم التي وصلت على يديه إلى مرحلة العدميّة والتفكيك والهدم، وكسر كلّ التابوات؛ وإنّ إلصاق صفة السعادة بـ "شوبنهاور" وحدها تكشف عن حجم المفارقة الدالّة، وهذه الدلالة نجدها قد امتزجت بنصوص المجموعة، وجعلت منها فانتازيا ساخرة تنتمي إلى "الكوميديا السوداء" في نقد الواقع والتوغّل في المسكوت عنه واليومي والمهمل. 

ولعلّ من خصائص هذا التوظيف أنّ القاص يلتقط جزئيات لا مفكر بها ويحوّلها لثيمة قصصية، ويجعل منها بؤرة دراميّة متصاعدة على شكل كرة الثلج التي كلّما تتدحرج كلمّا يكبر حجمها، أو نظام الفقاعة التي تكبر لتشكّل ظاهرة مرئيّة، قد تثير الرعب، ولأجل تضخيم صورة "الفوبيا" يتّخذ القاص من الحيوانات المرعبة المقزّزة وسيلة لتقديم "الواقع الممسوخ" كما في قصة "حرب مع فئران، وديناصور أخضر، أو رعب الجوع في العيش بكرامة". 

وعلى وفق هذا الاشتغال، والتوظيف يسعى القاص إلى ضخ وتضخيم النسق الفانتازي إلى حد "الفوبيا" وإثارة الفزع بغية خلق شحنة من الاحتجاج على الواقع بأسلوب الفانتازيا ممّا يؤدّي ببعض الدلالات والكشوفات من التعبير عن ثيمات ومضامين ومحمولات تنفتح على المساحة من الترميز والإيحاء والتأويل.

تتضح خصائص الأسلوب لدى الكاتب عبر اهتمامه بالإيقاع السردي القائم على الاختزال الدال فالقصص محسوبة بقيامات الفكرة والدلالة، وهي التي أبعدتها عن الاسترسال والفائضية السرديّة والاطناب المخل، وعلى وفق هذا الإشتغال فإنّ القاص يشتبك مع الموضوعة بسرعة الاستهلال والتناول ويتجنّب الوصف الفائض.

وقد يعبّر بهذا إلاختزال الجمالي عن أفكار ومضامين كبيرة كما في قصّتي "فرط الفراق، والعيش بكرامة" اللّتين لم تتجاوز الواحدة منهما عشرة أسطر لكنّهما عبّرتا عن فكرة وحدث وشخصية وفضاء للمعنى واتّساع الدلالة.

تتميّز قصص عادل بالاقتراب الشديد من الواقع كما توحي من خلال استعارة بعض الأجواء الواقعيّة، أو بعض الدلالات الشعبيّة حتى في عناوين القصص مثل "عيد الطالب، ودولمة، وبناية قديمة".. الخ، ويتميز القاص بقدرته على خلق بنية موازية للواقع تتصف بتوظيف المسوخية والاستبشاع والقبح.

أمّا خصائص البناء الفنّي على مستوى توظيف المضامين فنجد القصص تتوغل بالاشتباك مع واقع المدينة، وكأنه يعيد الينا اقتران الرواية والسرد بالدلالة المدينية واقتران السرد بالمدينة بحسب "لوكاتش"، فالتناقضات وتزاحم وصراع القيم المتضادّة هي من افرازات المدينة بوصفها المكان الذي قد يتحوّل إلى مكان أليف "يوتوبي" أو يتحول إلى مكان معادٍ "ديستوبي".

وعبر المعاينة النقدية والتحليلية يمكن الاستدلال على خصائص النسق الفانتازي "العجائبي والغرائبي" في أدب الشباب من خلال الإطلاع على هذه المجاميع القصصية، ونعزو ذلك وفق الاستدلال أو الاستقراء المنطقي والنقدي لهذه الظاهرة يعود إلى طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والسيكولوجي والوجودي "ليس بمعنى المذهب الوجودي السارتري"، فالواقع المعاصر بحد ذاته هو واقع فانتازي سيريالي، وبذلك يصبح الحديث عن الواقعية ضرباً من الإنزلاق أو التزويق غير الحقيقي، بمعنى أنّ الواقع المأزوم والسيريالي يضغط على وعي الكاتب ويتحّول إلى كاتب واقعي بالمعنى العام لأنّه ينقل عن واقع يحمل ملامح وخصائص "الفانتازيا" والغرابة والخروج على المنطق فالتناول يصبح تناولاً موضوعيّاً واشتباكاً حقيقيّاً بعيداً عن التلفيق والصياغة الساذجة.

ونلحظ الميل إلى خصائص السرد الحداثي والإبتعاد عن الاسترسال والإنشائية والوصف الصحفي واستثمار التقنيات السرديّة مثل الإختزال والاهتمام بالايقاع وهي منتجة في السرد لاسيما الانتقال بين الأزمنة والضمائر، وخلق البؤرة المركزية للحدث "الفانتازي" وربطه بالواقع والتعبير عن المعنى المتوخّى كما في قصّة: "ديناصور أخضر" التي تتناول حادثة فانتازيّة بوجود ديناصور كبير في مدينة بغداد، ممّا يثير الفزع والهلع.

وهو حدث ينتمي من حيث التجنيس إلى العجائبي لاسيما نهاية القصّة.

يوظف عادل الفانتازيا أو ما نستطيع تسميته بـ "فانتازيا الكوارث" في البنية السرديّة للتعبير عن فكرة "الكوميديا الفانتازية" التي تكمن في الواقع نفسه وتنفتح النصوص على وفق هذا التوظيف والدلالة على طاقة من الترميز والإيحاء والتأويل السياسي أو الاجتماعي، فقد يوحي وجود الديناصورات بمعانٍ ودلالات قد توحي باستبداد أو هيمنة قوة أو طبقات طفيلية، وقد توحي بالاحتلال وتقويض المنظومة القيمية والطبقات والمافيات المنفلتة، ويتحول هذا التوظيف في قصّة عميقة الدلالة  "مجرد سيجارة" ليكون الحدث الفانتازي يتشكل على شكل سرد استشرافي أو استباقي، ويتناول نبوءة وأحداثاً لم تحدث لكنّها توحي بالوقوع أو أنّ مجرد تناولها يعني أنّ لها منطلقات ومرجعيّات في الواقع نفسه، وهذا الواقع قد يتطوّر ويتشابك ويتأزم حتّى يصل إلى احتماليّة التصور النبوئي الآتي، وهو نوع من استكناه الواقع وعوامل المفارقة التي تكمن فيه وأنّ منطقة المأزوم قد يتطوّر إلى واقع محتمل لكنّه لا يستند على منطق، وقد يكون محتمل الوقوع.

إنَّ "فانتازيا الكوارث" التي لم تحدث فعلاً، لكنّها توحي بكابوسيّة محتملة قد تحدث انطلاقاً من فانتازيا الواقع نفسه. 

وقد استخدم القاص الأفعال المضارعة باقترانها بـ "سين الاستقبال" كدلالة على عدم حدوث الكارثة فعلاً، لكنّه الإيحاء المحتمل لوقوعها، وهذا ينتمي إلى "السرد النبوئي" الاستباقي، فالحديث أو وصف المجهول ينطوي على إثارة المتعة والترقّب والتشويق، وهي عوامل محفّزة لوتيرة وتوتّر السرد القصصي، وذلك عمق البعد السايكولوجي في القصّة كونها جاءت على وفق تقنية السرد الذاتي بضمير المتكلم، وظلّ الزمن والمكان والحدث في ذهن الشخصية بشكل افتراضي.

ويقدّم إلينا القاص فانتازيا ترتكز على التقاط حدث ينتمي إلى اليومي والمهمل أو الكارثة ذات البعد الاجتماعي وقد تكون حدثاً سائداً ومعروفاً لكنّه غير مفكّر فيه، ولم ينقل إلى مساحة العرض بصيغة المفارقة الفادحة التي تصل إلى "الكوميديا السوداء" وهذا ما نجده في قصة "حرب مع الفئران" وهي تجسّد معاناة البطل في حربه مع الفأر. 

فقد تبدو نهايتها ذات غرائبية مضاعفة حين يفكّر البطل لابتلاع كل أنواع الحبوب المهدئة كحل نهائي لكنّه يجد أن الفأر قد نفق ومات وحوله هذه الحبوب؟! 

هذا الحدث القصصي ذو الصيغة الاجتماعية يشير إلى موضوعه اليومي والمهمل أو بانوراما التفاصيل التي قلّما ينتبه إليها الإنسان لكثرة الوقائع الكبيرة الفادحة، لكنّ بانوراما التفاصيل أو الكوارث "اليومية المهملة" تعكس أن تأثيراً لا يقل شأناً من منطلق الضجر والذعر والفوبيا التي تثيرها، وقد ينتمي هذا إلى مصطلح أسطرة اليومي والمهمل واللاّمفكر فيه، وعلى وفق هذا الميل أو التوظيف فإنّ القاص قدّم نماذج عدّة لفانتازيا الكوارث، ببعدها السياسي والاجتماعي والفردي، وهي تنويعات عمّقت من هذا المتّجه وقدّمت تصورات لأكثر من ميدان ولم تقتصر على بعد أو دلالة أُحادية، مما يجعل التداخل بينها وانفتاح النصوص على الرمزية، والإيحاء وتأويل الحدث الكارثي وتحوّلاته وكثرة معانيه وإشاراته التي توحي بأنَّ الإنسان إزاء واقع غرائبي في كلّ المجالات والتفاصيل الكبيرة والصغيرة.

ويبرع القاص في تقديم أنموذج الغرائبية "العاطفية" المرتبطة بالعشق وفق حدث ينطوي على مفارقة ويجسّد كوميديا سوداء على الرغم من هذا المحمول الدلالي لكنّ النص يرتقي إلى صياغة لشعرية "الحدث" ونجد ذلك في القصّة عميقة الإيحاء أو الصورة "فرط

الفراق". 

مجموعة "ضحكات شوبنهاور السعيد" للقاص رأفت عادل تقترب من أدب الإثارة والتشويق ومزج المتعة بالسرد من خلال توظيف النسق الفانتازي "الغرائبي" واللغة الأدائية المعبّرة، وجمالية الإيحاء والتأويل المنشج.