عبد الكريم قادري
أظهر المخرج الكردي العراقي سينا محمد، في فيلمه الروائي الطويل {سعادة عابرة} نضجاً سينمائياً واضحاً، ووعياً بالأبعاد الجوهرية للفيلم، انطلاقاً من الخيارات الفنية التي شكلت عملية بناء الفيلم وصناعة تفاصيله، ووصولا إلى فلسفته في عملية الدفاع عن فكرته الأساسية وصياغتها بطريقة نبيهة مؤثثة بشرط التقبل. وقد زرعها في ثنايا الفيلم بطريقة غير مباشرة، ما جعلها فكرة غير مكرسة من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية حصدت كقيمة فكرية، نتيجة التأويل الذي سيشغل المتلقي بعد الانتهاء من فعل المشاهدة.شارك محمد سينا في كتابة سيناريو فيلمه بالتعاون مع تارا قادر، ولقد ولد هذا التعاون مقاربة فنية متوازنة، أي أذاب وجهتي نظر مختلفتين في قالب واحد، وهو ما أعطى نفساً عميقاً للفيلم.
وفي الوقت نفسه خلق لغة سينمائية قوية، أزاحت الحوارات والنقاشات والحشو، ووضعت مكانها لغة صافية، أسهم في خلقها العديد من العناصر المهمة، من بينها التصوير الذي قام به كل من خيبر رفيق سينا كيرمانيزاده، إضافة إلى المونتاج الذي خلق هو الآخر مقاربة لغوية أكثر منها مقاربة تقنية نتيجة التقطيع، أي تغلب فيها المونتير هالغورد طاهر في الجانب الفلسفي لهذه التقنية المهمة في السينما.
شارك فيلم "سعادة عابرة" في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة (14 ـ 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023)، ونال جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم روائي عربي، كما حصدت بطلة الفيلم الرئيسية رفين رجبي جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة، وهذا معطى من المعطيات الكثيرة التي انعكست فيها جمالية الفيلم المتعددة.
حاول الكاتب والمخرج محمد سينا (36 سنة) أن يجد تفسيراً لمفهوم السعادة، وقد جعل من هذا الشعور لحظة عابرة، وقد عكسه بوضوح في العنوان الذي وضعه لفيلمه، لكن السؤال الفكري الذي يتم طرحه بقوة، هل فعلا السعادة لا تدوم، وهل هي عابرة، ولماذا لا تستمر، وهل يمكن قنصها من أشياء بسيطة، هذه أسئلة وأخرى تعددت وتوزعت في جميع مفاصل الفيلم من دون أن يخلق لها إجابة نموذجية واضحة، فقط أعطى بعض الاحتمالات، وقد كان محقاً في هذا، لأن السعادة مفهوم هلامي متعدد، ويمكن لأي فرد أن يفسره على هواه، إذ يمكن لفرد أن يرى السعادة من خلال بتلة ظهرت في شجرة مثمرة، لكن فئة أخرى لا تحس بهذا المنظر ولا بتفاصيله، وهذا ما حدث في الفيلم، أو بالأحرى حدث للزوجة المسنة، التي وجدت علاجها وراحتها في عناق عابر من زوجها، وهذا الشعور مثّل الخلاص والشفاء الجسدي والنفسي مما هي فيه، واكتفت بهذا الفعل أو الحدث الظرفي لتشفى، انطلاقاً من سياق الريف وما يفرضه هذا الفضاء المحافظ على أفراده، ومن هنا يختلف الشعور لدى سكان المدن، وربما زوجة المدينة لن تعني لها تلك الحركة أي شيء، لأنها متطلبة أكثر، وربما متفهمة أكثر من المرأة الريفية، التي لديها سياقات وظروف وتنشئة معينة، لهذا لا يمكن لها أن تتذمر وتطلب شيئاً هو فوق مقدورها ومقدور التركيبة الاجتماعية المحافظة بشكل عام.
هذه بعض التأويلات التي جاءت وفقاً لسياق الفيلم العام، ويمكن أن تتعدد من متلقٍ إلى آخر، لكنها لن تخرج من الدائرة التي رسمها المخرج سينا محمد، والذي أراد أن يشير بشكل عام إلى ما تمر به المرأة في الأرياف الكردية، إضافة إلى أنه رسم أنماطاً معيشية محددة، أثثها بجماليات السينمائي الذي يبحث عن التغيير من خلال محاولات رصد تلك الآهات التي تخرج من صدر المرأة، وهي فرد من المجتمع يقوم بدور محوري ومهم لدى كل أسرة ريفية، لكن في المقابل لا تأخذ الاهتمام المطلوب الذي يعطيها حقها كما ينبغي، وبالتالي يكون سينا قد أشار إلى معضلة أساسية تتخبط فيها المرأة في المجتمع الكردي، من دون أن يصدر أحكاماً قاسية على هذا المجتمع، فقط وضع المشكلة في سياقها الصحيح وترك الحكم للمتلقي.
انعكست جماليات الفيلم على مستويات متعددة، من بينها المشاهد المتنوعة التي رصدت مناظر الريف المختلفة، من بينها الجبال والالتواءات والطرقات غير المعبدة ومنابع الماء والبحيرات والمروج الممتدة وغيرها من المناظر الأساسية الأخرى، وقد حاول المخرج أن يبرز هذا الفضاء بشكل واضح في فيلمه، من خلال سير أو قيادة الزوج المسن (صالح باري) لدراجته النارية وسط تلك الفضاءات، وكأنه يحاول أن يظهر التناقض الواضح بين تلك المناظر الساحرة واللطيفة، وبين قسوة الزوج، وربما هذه القسوة ولدت من خلال تلك الظروف القاسية التي يمر بها الفرد، انطلاقاً من الأعمال الشاقة وحياة اللاأمن التي يعيشها الفرد الكردي، خاصة من يقطن في الريف، نتيجة الظروف السياسية المعقدة التي تمر بها المنطقة منذ عقود.
أظهر فيلم "سعادة عابرة" أهم العادات والتقاليد التي يمتاز بها الريف الكردي، من بينها دور المرأة في البيت، أين تقوم بالاهتمام بالأغنام والزرع وحتى ترميم البيت، إضافة إلى عملها في المطبخ وتنظيف وتنظيم البيت، ورغم هذا فهي تكاد تكون غير مرئية بالنسبة للرجل، كما أبان المخرج الهوية العمرانية للمناطق الكردية الريفية، التي انعكست في طريقة البناء البسيطة، إضافة إلى خصوصيتها في عملية النسيج والعمل الجماعي وغيرها من المعطيات الأخرى التي اعتمد عليها محمد سينا.
فيلم "سعادة عابرة" عمل شاعري تمت صياغته بطريقة ذكية وسلسة، استعان فيها المخرج بتراكمات معارفه ومرجعياته الثقافية في ثقافة الاختزال التي توفرها الومضات الإعلانية كي يعكسها في فيلمه، إضافة إلى إفادته من بعض خصوصيات السينما الإيرانية التي تعتمد على تصوير التفاصيل الصغيرة التي تولد من خلالها الجماليات الكبرى والشعريات الطافحة، وهي المعطيات المحورية التي شكّلت الفيلم في جميع تفاصيله، ليتم تقديمه بصياغة ذكية وناضجة، تبشر بميلاد مخرج جيد يملك من المرجعيات الفكرية والفنية ما يؤهله لإعطاء المزيد للسينما الكردية والعراقية على العموم.