إحسان العسكري
لم يتسنَّ للظلام أن يفرض سيطرته على الفكر الإنساني التنويري حين يبسط الأخير سلطته على الضمير الحي.
فالإنسان بطبيعته يتفاعل مع المتغيرات الحياتية الحاضرة، ولكنه يتفاعل أكثر مع التأريخ، خاصة إذا ما حملَ صيغة التأثير الإنساني المحض، كما في قضية عاشوراء التي أشغلت الرأي العام العالمي الشعبي والفكري والنخبوي وحتى السياسي والاجتماعي، فكتب المفكرون واشتغل الممثلون وألف الموسيقيون والشعراء ملاحم عظيمة في قضية عاشوراء التي تجلت بموقف الحسين العظيم «يوم الطف» كما عبر المستشرق الفرنسي «لويس ما سينسيون» بمقولته الشهيرة «لقد أخذ الحسين على عاتقه مصير الروح الإسلامية والإنسانية وقُتل في سبيل العدل في كربلاء».
ولم يقف الفن التشكيلي متفرجاً على هذه الملحمة العظيمة ولم يعبأ لظلاميات السياسية الطائفية، فكون العالم بأجمعه فكرة راقية عن عاشوراء وطفّها. إذ أخذ هو الآخر على عاتقه تصوير الروح الأخلاقية لهذه الواقعة الأليمة لما شكلته من منعطف تأريخي غير مجرى الحياة، ولم يتوقف عند طائفة تنتمي للحسين وأبيه «عليهما السلام»، بل أنها عبرت مجالات أوسع حتى تفاعلت معها جميع الشرائع والأديان على وجه البسيطة، بل حتى أن اللادينيين لم يتجاهلوا محرم وواقعته فتحولت منصات الانترنت «التواصل الاجتماعي» إلى معارض فنية تناولت منتهى الأمانة والدقة قضية عاشوراء الحسين، فأثرت بالمجتمعات أثراً كبيراً، حتى إن الفن الحسيني جعل من العالمية المنصفة معرضاً حراً لأعماله وأثمر عن انتقالات عظيمة في حياة بعض الفنانين، أمثال نبي حيدر الشاب الهندوسي المولود في أميركا، جرتهُ الأعمال الفنية لأن يذوب في عاشوراء عبر اهتمامه بالفنون والموسيقى.
وهذا ليس غريباً.. فقد عشنا في بلد يعشق الحسين «ع» ويتفاعل مع فكرته ويمارس كل ما يمكن ممارسته في سبيل إعلانه الوفاء له ولقضيته.
لذا نجد الفنانين العراقيين الشباب والمبدعين منهم أغرقوا جمال عطائهم بالقضية الحسينية كلٌّ حسب ما يبدع به، فمن أعمال النحت والشمع «عكفت الفنانة إيناس النعيمي وعبر أعمالها بالشمع على تبني محنة المرأة في عاشوراء، فأبدعت وأجادت وتفوقت حتى على محيطها بما قدمته، وهذا ليس بغريبٍ على أبناء شعبنا الأحرار فالحسين ملهمهم الحي».
بينما قدم الفنان حسن ناظم أعمالاً رصينة تنم عن عمق إبداع وتمكّن من الرسم، خاصة لوحاته بالفحم على الورق، مثل اللوحة التي تجسد عودة فرس الحسين «عليه السلام» واستقبالها من قبل شقيقته وشريكته في الثورة العظيمة السيدة زينب.
اللوحة الأخرى التي تحمل نمطاً تصويرياً تعبيرياً بواقعية غزيرة، حين نقل للمتلقي وحدة الحسين وقد أحاط به المجرمون من جميع الجهات، ولم ينكسر أو يتخاذل. لقد اعتمد الفنان على مخلية البيئة العراقية الحسينية، فأجاد في تصويره لذلك المشهد، ولم يبتعد كثيراً في تعبيريته، بل عكف على تثبيت مبدأ اللوحة عبر مكانية الحادثة ومشهدها المريع.
وبنفس التفكير كانت للفنانة «براثا» زهراء حسن، لوحة فحم على ورق صورت فيها وقوف الحسين بلا سلاح وهو يؤدي واجب النصح والإرشاد لأعدائه، فكانت لوحةً تحمل من معاني الإنسانية والفكرة الحسينية الكثير من الأوجه التي تتحدث للمتلقي عن عطاء عاشوراء الحسين الغض الذي لم يبدأ بقتال ولم يعتمد الإجرام بينما فعل هذا أعداؤه.
وأهدى الفنان الشاب «دارون دحام لوحته الرائعة وجوه عاشورائية إلى مستشار رئيس الوزراء د. عارف الساعدي أبان عرضها في معرضٍ تضمن أعمالاً تخص القضية الحسينية، وكانت لوحة تعبيرية بالألوان تنم عن عمق تفكير هذا الشاب ومستوى إبداعه الغزير، فالخطوط والألوان تم مزجها بطريقة احترافية جعلت من الفكرة تنطق بأثر من صوت وتفيض بالتعبير الإنساني لتلك الحادثة التي مر على حدوثها أربعة عشر عقداً، ولكنها ما زالت ملهمة العراقيين والعالم».
أما الفنان «حسنين العراقي فإتخذ من الخط العربي وجهة لأعماله الفنية التي تناولت القضية الحسينية فعبر مخطوطاته الجميلة و التي تبنت بوضوح مسألة الطف باستخدام اللونين الأحمر والأسود الذين تقمصا ثيمة التشكيل الغالبة في هكذا أعمال تحمل طابعاً فنياً خاصة بمناسبة خاصة، حيث اعتمدهما فنان الشاب في إيصال فكرته الراقية والتي تغلب عليها سمة الحزن وتعج بكمية لا يستهان بها من الإبداع والجمال.
هكذا كان تعامل الفن الشاب العراقي مع الحدث فتبنى عاشوراء في ضميره وأبدع أكثر، ولن يتوقف عن حدٍ معين طالما أن الضمير الحسيني تبنى قبل ذلك اختيار هذا الشعب ليثبت أساس انطلاقته العظيمة، وبهذا فإن الثبات على الموقف والشجاعة والصمود والانتصار المعنوي الخالد أثبت إنه يؤثر في الحياة ما تم تصويره عبر النحت والرسم والتصوير.
فكان باكورة الإبداع المؤثر ، رغم أن واقعة الطف كانت فاجعة حقيقية آلمت وأوجعت قلوب البشرية على مدى تاريخ الحياة البشرية.
وفي مجال الفن كغيره من المجالات الإبداعية، إذ جسدت الواقعة بشكل يليق، فنقلوا ذلك في ثيمة الفن العاشورائي، واستخدموا كل الجماليات التشكيلية وطرحوا أعمالاً صورت تلك الحادثة من خلال التأثر بالقضية والإبداع الشخصي والانتماء المكاني.