شنيار عبدالله الحياة وما بعدها

ثقافة 2024/07/21
...

 صلاح عباس


يشكل فن الخزف، مادة ثرية للناقد الفني وللباحث في الشأن التشكيلي، كما أن هناك الكثير من التقاطعات والاختلاف، بخصوص هذا الضرب من الفن، وإلى جانب كونه متصلا بشكل مباشر بمختلف الأفرع التشكيلية، كالرسم والنحت، والكرافيك، إلا أن نقاط التباين في وجهات النظر تتكرس بما يتعلق بالفنون التطبيقية، وما يطلق عليها بفنون الصنائع، غير أن التقييم النقدي في زمننا الحديث، أسهم بوضع مقتربات منطقية، من شأنها تقريب الفهم والرؤية والموقف من هذا الفن، الذي أسس مناهج بحث جديدة ومميزة، ليس على صعيد التنظير النقدي والبحث الفني والجمالي، وانما على صعد الاداء الفني والتقني، بما يضمن انتاج نوع متباين من الانتاج الفني.

إن فن الخزف، من الفنون العريقة في بلادنا، والحضارات المتعاقبة، منذ الفترات الرافدينية مرورا بالحضارات العربية والإسلامية وحتى وقتنا الراهن، لنا معه ذاكرة حميمية فلا يوجد بيت إلا وفيه الكثير من القطع الخزفية، لأن بلادنا، ما هي إلا حضارة الخصب والنماء. وما يطلق عليها بحضارة الطين- على الرغم من أصالته وتاريخه الممتد لعمق الزمن- إلا أنه مر بفترات انحسار وجفاف، طيلة قرون من التاريخ المظلم، وعندما نتطرق لفنون الخزف المعاصر، فلا بد أن نتذكر الأسماء الريادية ضمن هذا السياق، ففي عام 1954 أسس "فالنتينوس أحمد"، وهو قبرصي المولد عراقي الجنسية أول محترف لفن الخزف في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وتتلمذ على يديه الفنان سعد شاكر الذي أسهم بنوع فريد من العطاءات الخزفية النوعية، ومن ثم ترسخ هذا الفن أكثر وأكثر، حتى غدا تخصصيا يحسب له الف حساب.

لعل اسم الفنان شنيار عبد الله، يكون على رأس قائمة الفنانين الخزافين في العراق، لأسباب عديدة تتعلق بتعدد تجاربه وبالنوع الفني الذي يتحرر من بين يديه، ويظهر إلى حيز الوجود بوصفه انساقا فنية تزاوج بين مختلف فنون الرسم والنحت، وتؤدي وظائف فنية وفكرية متنوعة، وكما نعرف بأن الوسيط الناقل للأفكار والرؤى هو المواد الخام بكل تنوعها وخصائصها، ومادة الطين هي ذاتها المادة الخام المثالية التي يزاول الخزاف تحريكها واللعب على سطحها بما يضمن انتاجا نوعيا مثيرا  للبصيرة. 

يبدو أن عبد الله، اتقن الدرس الأكاديمي وتجاوزه إلى أبعد المديات، كما أن مادة الطين، تخبر فيها وعرف أسرارها وتحولاتها الاحتمالية التي تبدأ ولا تنتهي، ولقد خاض الفنان في غمار تجارب فنية لا حصر لها، بما يتعلق بمادة الطين وتوظيف الاكاسيد المعدنية وسبل الحرق بطرق شتى، ومن خلال مجموعة التجارب التي انتجها في مجالي الخزف والنحت الفخاري، "الراكو" و"الكراكاتو" إلى جانب السياقات الخزفية التقليدية والنمطية المعمول عليها على وفق السياقات المعتادة. ولو عدنا لفن "الراكو"، فهذا يتلخص في كونه فنا لا يمكن احتساب نتائجه اللونية على الاطلاق. ويعود تاريخية هذا الفن إلى الحضارات الشرقية القديمة وضمن تقاليد حفلات الشاي المشهورة، التي كانت جزءا من التقاليد الاجتماعية، وكل شخص مدعوا للحفلة عليه أن يصنع قدحه بنفسه ثم يزججه بالأكاسيد المعدنية ومن بعد ذلك يقوم بتغليفه بنشارة الخشب أو وضعه في باقة من الحلفاء ثم يحرقه، فتظهر ألوان قزحية مغايرة لما هو متوقع. وعبد الله عرف أسرار هذا الضرب من الاشتغال الفني وانجز الكثير من قطع "الراكو" مقدما هذا الفن للجمهور العراقي والعربي، معارض مهمة، وكانت القطع التي انجزها مثيرة للاعجاب ومبهرة لما تتسم به من جمالية ودقة عالية، وفن "الكراكاتو" هو نوع من الفنون النحتية، ولكن يتم عمله بمادة الطين فقط، وتجيء تسميته من رجال "الكراكاتو" المقاتلين الاشداء الذين تروى عنهم القصص والأشعار والأساطير في شرق آسيا. لقد وجد الباحثون الآثاريون جيشا من رجال "الكراكاتو" على شكل تماثيل بحركات وأوضاع مختلفة ومنفذة بالأحجام الطبيعية والتماثيل بأوضاع جيدة وبوجود الملابس والأسلحة والمعدات الشخصية للمقاتلين، يرى بعض الخبراء بأن هذه التماثيل من الطين المفخور مأخوذة عن قوالب حقيقية لكل الاشخاص وعدتهم، ولكن عبد الله، اهتم بهذه الطريقة من الاداء الفني والتقني، مجسدا ملامح المرأة العراقية بطريقة قريبة من الاله الأم أو تماثيل الأسس في الحضارة السومرية، حيث تجريد الملامح ووضع الاختصارات وإهمال الأجزاء والتفاصيل والاكتفاء بالشكل النهائي الصقيل المعبر عن الحركة الموضعية.

لقد اهتم الفنان بمختلف الاشكال الهندسية، المربع والدائرة والمثلث وكذلك الاشكال المتراكبة، سواء كانت ببعدين على اشكال "رليفات ناتئة" أو بثلاثة أبعاد على أشكال دائرية، يمكن رؤيتها من كل الجهات كروية أو معينية، بيد أنه يشتغل على سطوحها وحدات ومفردات معينة، تجيء هذه الصياغات وفق مؤثرات وضغوط الحالة التي تفرضها عليه خصوصية اللحظة التي يعيش ضمنها. 

إن الفنان لا يعمل بناء على الطلب المقدم له، بل ينجز أعماله استنادا لحاجاته التفكرية والحسية، وكذلك لما تمليه عليه الحقبة التاريخية والمصير الإنساني المفجع بعد الحروب والكوارث. وعلى الرغم من الطابع التجريدي في أغلب اعماله الخزفية، إلا أن حضور الإنسان بدلالة الوجوه أو الأجساد هو السمة المميزة في سياق تجاربه حتى لو أخذ التجريد منها مأخذا، ولكنه يبقي على بعض الملامح الانتقائية التي تعبر عن بلاغة البوح وحرية التوصل الذهني وإيجاد الحلول الفنية والتقنية.  

وفي عملية الانتقاء النوعي للمفردات والوحدات الصورية كانت العلامات الحروفية المنفذة باللغة العربية تأخذ مدياتها الأبعد من قيم موضوعات متداخلة مع نصوص أدبية أو مقدسة، ولكن في هذه المرة ستكون المدونات الحروفية أو الجملية مكتسبة طراوة الأفكار وحلاوة 

الاشكال وظرافة الانتباه. يبدو أن مساحة الاشتغال الفني لدى عبد الله تتسع أكثر كلما حاولنا سبر عوالمه، والتعرف على أهم معطياته، وفي جانب انتاج الجداريات الكبيرة الموضوعة في الأماكن العامة، أن هذه التجارب تفيض بالانشاءات التصويرية المعبرة عن قضايا مصيرية تخص تاريخ البلاد وتضمن بعضها مواقف ورؤى مسوغة بوعي ديناميكي مستشرف للغد الطموح، وكانت هذه الجداريات تحصيل حاصل لمجوعة المهارات والخبرات الخزفية.

لقد تسنى لي الاطلاع على مجموعة من خزفياته الأخيرة، وكانت عبارة عن اعادة التشييد المعماري للذات المهندسة، فثمة كتل توحي بالحجم والحركة وهناك فراغات يتنافذ عبرها الضوء تاركة ضمن محيط العمل ظلال منكسرة، توحي بالعمق ليس الشكلي فحسب، بل بعمق رؤيوي يحفز على التأمل. وفي هذه الأعمال طابع ذاتي محض، وكأن الفنان غض الطرف عن المفاهيم المؤكدة للاصالة والمكتسبة للهوية، لا لشيء إلا ليحقق الجدوى من الفن المعبر عن الحرية الشخصية ويطبع من خلاله مفاهيمه وخلاصة تفكره بالوجود والحياة وما بعدها. إنها بناءات محايثة فكل جزء متصل بالجزء الذي يليه أو الذي يسبقه، وعندما يكتمل البناء بصيغته النهائية يتحرر الموضوع الكامن في رأسه ويظهر بوصفه قطعة خزفية حرة وهيكلا مفعما بالهيبة والوقار. يأتي ذلك عبر ادخال ألوان أحادية هادئة تضفي طابع الخصوصية في التعامل مع الأطيان ومواد التزجيج، والفارق يكمن في الأشكال المنتظمة وفق حسابات تصميمية، وكل ذلك يخضع لمفهوم الوحدة في الكل أو ما يطلق عليه بالوحدة الموضوعية أو وحدة الانسجام.