الإنسانيَّة الإيمانيَّة

ثقافة 2024/07/21
...


د. رنـا إبراهيم البهوتي

تعدُّ الأنسنة تياراً جديداً ينادي الكثير من المفكرين بضرورة تطبيقه في بيئتنا العربيَّة على التراث العربي والإسلامي، متدثرين برداء التجديد، والتي يأملون من ورائها إحياء الشعوب الإسلاميَّة بعد سباتٍ دامَ طويلاً، ويأتي محمد أركون وحسن حنفي، في الصفوف الأولى لدعوات الأنسنة في مجتمعنا العربي، فقد كانت الأنسنة عندهم محور مشروعهما النقدي، ومن ثم كانت خطوتهم الأولى هي أنسنة الوحي وتطويعه للواقع وجعله تجربة بشريَّة، ثم أنسنة علم الكلام والإلهيات، وجعل الإنسان مركز الوجود. في المعرفة الإسلاميَّة تأتي مسألة الوحي أولى المسائل التي شغلت الساحة الفكريَّة قديماً وحديثاً، إذ يرتبط القرآن ارتباطاً وثيقاً بظاهرة الوحي، الوحي الذي جاء به الأنبياء، وقالوا إنَّه يوحى إليهم من قبل الله سبحانه، وإنَّهم على اتصالٍ بالله إما مباشرة، أو عبر الاتصال بالملاك الذي يشكلُ واسطة في تلقي الوحي، ومن ثمَّ تكون نظرة الأنسنة للوحي نظرة مغايرة لحقيقة الوحي. وربما أدت هذه النظرة إلى الرفض التام والهجوم الحاد على دعاة الأنسنة لما فيها من مخالفاتٍ لما هو موروث.

 

أنسنة إيمانيَّة

على الرغم من كثرة الاعتراضات التي وجهت إلى هذه الأنسنة المغالية عند كلٍ من محمد أركون وحسن حنفي، والرفض الشديد لها من قبل العديد من المفكرين، لأنها قد تنقلبُ إلى وجهٍ آخر للتطرف والإقصاء، لا سيما في تناولها لمسألة الوحي خاصة، والقول ببشريته من دون صلة بالله. يأتي الدكتور عبد الجبار الرفاعي معترضاً على القول ببشريَّة الوحي بالشكل الذي صورته الأنسنة المغالية، يعترضُ الرفاعي على طمس جانبه الغيبي، وأيضاً يحاولُ تصحيحَ المسار، من خلال محطاتٍ عدة من أهمها:

يرى الرفاعي أنَّ الوحي ليس تجربة بشريَّة، بل هو في نظر الرفاعي كما يصرح بذلك بقوله: "الوحي صلة استثنائيَّة بالله، وكلُّ من يفسر الوحي خارجَ هذه الصلة ليس لا يؤمن بالنبوة. كلُّ من يرى الوحي حالة بشريَّة تتكشفُ فيها قدرات وإمكانات وطاقات خلاقة لدى الإنسان، أو هو شاعرٌ، أو نابغة، أو إيحاءٌ نفسيٌّ، أو غير ذلك من تفسيرات، لا تسمع في الوحي صوتاً إلهياً، فهذا لا يؤمن بلة إلهية للنبي الكريم بالله". هذا يعني أنَّ الرفاعي يرفضُ رفضاً قاطعاً أيَّة محاولة لنفي الصوت الإلهي الذي يختصُّ به الوحي. يشرح عبد الجبار الرفاعي رؤيته في بيان حقيقة الوحي: "الفهم الذي أتبناه للوحي لا يهدر البُعدَ الإلهي الغيبي المتعالي على التاريخ الذي ينطقُ به الوحي... أرى الوحي قبسَ نورٍ إلهي تجلى في شخصيات أصيلة صادقة، تتفردُ بيقظتها الروحيَّة، وأشرق على أرواحٍ ساطعة كالمرآة المصقولة فتشعّ ضوءها على الناس". وهذا التعريف اقتبسه الرفاعي من قوله تعالى: "قدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ"، وأهم ما فيه هو أنه لم يجعل الوحي ذا صبغة بشريَّة خالصة، وهو يبعدُ كلياً عن الذي تريده الأنسنة بالتأسيس له وجعله بشرياً خالصاً، والنظر إليه بوصفه تجربة بشريَّة تخضع لإرادة البشر وخاضعة للشعور والمشاعر، وجعله منتجاً ثقافياً وظاهرة لغويَّة منعكسة للواقع الذي وجدت فيه ولا تنفك عنه، وبسبب هذه الأمور مجتمعة اعترض عبد الجبار الرفاعي على هذه الأنسنة المغالية.

لا ينفي الرفاعي البُعد التاريخي البشري في الوحي. بعدان للوحي في نظره: إلهي وبشري، كما يشرح ذلك بقوله: "البُعد الإلهي الغيبي في الوحي لا يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته، البُعد البشـري في الوحي يقعُ في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته. كلُّ ما هو تاريخيٌّ بشـريٌّ وكل ما هو بشـريٌّ تاريخيٌّ، كل ما هو إلهيٌّ بوصفه إلهياً خارج التاريخ، وكل ما هو خارج التاريخ لا يخضع لمعادلات دراسة الواقع وأدوات فهمه وتفسيراته".

الأمر الأكثر خطورة في الأنسنة المغالية هو نزع الصوت الإلهي في القرآن الكريم، وإنْ لم يصرح بذلك روادُها، إلا أنهم سلكوا كلَّ الطرق المؤدية لذلك. وهنا يأتي الدكتور عبدالجبار الرفاعي أول المعترضين على إنكار الحضور الإلهي في القرآن، وإهدار الطاقة الرمزيَّة في الشعائر والطقوس والعبادات وتفسيرها بمناهج العلوم التجريبيَّة، الأمر الذي انتهى إلى "إنهاك الدين وتفريغه من محتواه الروحي والأخلاقي والجمالي، واستنزاف الدلالات الرمزيَّة للنصوص الدينيَّة".

يدافع الدكتور عبدالجبار الرفاعي عن الدين، وعن طاقة المقدس المتجددة في العطاء والصلاحية، ليبين أنَّ "المقدس مستمرٌ متواصلٌ أبدي، غير أنَّه ليس ساكناً أو قاراً أو ثابتاً بل هو متحركٌ ومتغيرٌ إنَّه موجودٌ دائماً، لكنَّ أشكاله وأنماطه شديدة التنوع، وعادة ما يتعرض المقدس للتلاعب من قبل البشر، ويجري توظيفه في المعارك ويُستخدمُ كقناعٍ وذريعة في الصراع الاجتماعي، ويخضعُ لمختلف أنواع التفسير والتأويل والقراءات المنبثقة عن الفضاء البشري الحاضن له"، وهو يقصدُ أنَّه على الرغم من الصوت الإلهي في النصوص الدينيَّة إلا أنها لا تتسمُ بالصلابة والجمود، إنَّما هي مرنة تتناغم مع الأفكار والعقول، ما يهدر مضمونها التفسير وفقاً للأهواء والمزاجات والمصالح.

* مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر