الصورة الشعريَّة في القصيدة الحسينيَّة

ثقافة 2024/07/21
...

  أحمد الشطري

لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا أن الصورة الشعريّة هي من أهم القيم الإبداعية في النص الشعري، سواء تشكلت هذه الصورة من خلال صيغة بلاغية، أم مشهد درامي، أم بنية سردية، فلكل تقنية من هذه التقنيات جمالياتها، وأثرها الفاعل في نفس المتلقي وقوتها الجاذبة.

وإذا ما كانت فضاءات التخيل مشرعة الأبواب وغير مقيدة بحدود في مختلف الأغراض الشعرية، وهي بذلك تمتلك القدرة والحرية على الانطلاق في مساحة لا تقف عند حاجز ولا ترزح تحت قيد، فإن ثمة أغراضا شعرية خاضعة لشرائط ومحددات لا بد أن تقف عندها انسجاما ورضوخا لمبدئية وأخلاقية ذلك الغرض، وصدقية الانطباق مع حده الواقعي من جهة، وغايته المثلى من جهة أخرى. 

وهذا ما يمكن أن نضع في دائرته ما نسميه أو يسمى اصطلاحا بـ "الشعر الحسيني"، فمثل هذا الشعر لا بد من أن يخضع لأخلاقيات معينة، ولمحددات تلتزم الجانب القيمي لمكانة الإمام الحقيقية والرمزية على حد سواء أولا، ولواقعية الشخوص والحدث الطفي ثانيا، وليس المقصود بـ "الواقعية" تلك الصورة المرسومة تاريخا، وإنما القصد هو عدم الانجرار مع المتخيل التصويري إلى ما يتقاطع مع الحد الإنساني والمحظور الشرعي، كما يفعل بعض "شعراء العامية".

وبرغم تلك المحددات التي نحسب - ووفقا لقراءتنا لمنتج العديد من شعراء اللغة "الفصحى"- أن التزام هؤلاء الشعراء بتلك المحددات ثابت ومحسوس، فإن مخيلتهم الإبداعية استطاعت أن تخلق صورا شعرية غاية في الإبداع والجمال والإدهاش، مبتعدة عما يخل بحدودها الأخلاقية والشرعية.

ومنذ أن اتخذت القصيدة الحسينية مسارا مغايرا يتسم بحداثة الطرح وأسلوب التعامل مع واقعة الطف أو الثورة الحسينية؛ أخذت فضاءات الصورة الشعرية تتسع فاتحة مساحات جديدة لا تنحصر بمعالجة الجانب التاريخي للحدث، وإنما تتعالق مع الواقع بكل مجالاته الفكرية والإنسانية والاجتماعية والسياسية، وهذا الانزياح في التعامل –إن صح الوصف- فتح آفاقا واسعة لبناء الصورة الشعرية، ووسع من دائرة محدداتها، مما أسهم في إعطاء المخيال الإبداعي للشعراء القدرة على بناء الصورة الشعرية بمختلف أشكالها بناء يتسم بالجدة والعذوبة وقوة الجذب. 

ولعل من أهم مظاهر تعامل الشعراء التجديدي مع واقعة الطف وشخوصها، هو أولاً: هذه الانتقالة من النزعة البكائية إلى نزعة الاستلهام الثوري لقيم الثورة والذوبان العشقي في عظمة شخوصها، والنظرة التمعنية ليس لقبح الفعل الإجرامي للقتلة، وإنما لجمالية التضحية والموقف البطولي للإمام من جهة والذوبان اللا محدود في شخصيته من قبل أصحابه.

وثانيا: حداثة التعامل مع تلك الواقعة وشخوصها انطلاقا من ذات الشاعر وبيانا لرؤيته للثورة وقائدها، وتصويرا لمشاعره وتفاعلاته مع الشخوص والوقائع بأسلوب هو أقرب للتشبيب أو الغزل أو ما يسمى بالخيال الرومانسي، ولعل هذا التعامل الحداثوي نابع من الاعتقاد بأن كل وصف وتوصيف للثورة وشخوصها هو أدنى من الصورة الحقيقية لكليهما، أو هو كما يقول المتنبي العظيم "وإذا استطال الشيء قام بذاته/ وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا".

ولعل خير مثال على ذلك ما نجده في أروع قصيدة حديثة قيلت في الحسين "ع" وهي قصيدة الجواهري "آمنت بالحسين" إذ نرى الشاعر يستهلها بخطاب ذاتي ليس لشخص الإمام وإنما لضريحه: "فداء لمثواك من مضجع/ تنور بالأبلج الأروع" ثم يعمد إلى طرح فكرة التشكيك بالوقائع، وهو في حقيقته تشكيك فلسفي يهدف إلى إثبات ليس الحقيقة المروية وإنما ما هو أعظم منها، كما أن تلك القصيدة ـ كما أرى- هي أول قصيدة تعاملت مع شخصية الإمام وثورته ليس بروحية المظلومية المنكسرة، بل بدفق الثورة وعنفوانها الانتصاري الشامخ:"كأنَّ يداً من وراءِ الضريحِ / حمراءَ " مَبتُورَةَ الإِصْبَع "‏/ تُمَدُّ إلى عالمٍ بالخُنوعِ/ والضيمِ ذي شَرقٍ مُتْرَع/تَخبَّطَ في غابةٍ أطبَقَت/على مُذئبٍ منه أو مُسْبِع/ لِتُبدِلَ منه جديبَ الضمير/ بآخَرَ مُعَشوشِبٍ مُمرِع.

 هذه الصورة التي ترسمها هذه الأبيات ليست صورة الناظر المتفجع المنكسر، وإنما صورة المستلهم لقيم التغيير والثورة على الخنوع والذل.

ومثل هذا أيضا ما يرسمه الشيخ أحمد الوائلي بقصيدة حملت عنوان "حديث الروح" يقول فيها:" أرجفوا أنك القتيلُ المُدمّى/ أو من يُنشئُ الحياة قتيلُ/ كذبوا ليس يُقتلُ المبدأ الحرُّ ولا يخدعُ النُهى التضليل/ كذبوا كلُّ ومضة من سيوف الحقِّ في فاحم الدجى قنديل/ كلُّ عِرقٍ فروهُ لَهْوَ بوجهِ الظُّلمِ والبغي صارم مسلولُ".

بينما يأخذنا مروان عادل وعبر منارات واقعة الطف إلى أولئك الذين ذابوا في محبة الحسين فاستحضروه في ضمائرهم جودا وكرما ليطعموا على محبته الناس ليس لجوعهم ولكن لكي يعيشوا ذكراه عبر طقوس تجذرت بدواخلهم كمحاولة لاستذكار ما لاقاه الإمام وصحبه من جوع وعطش، يقول في قصيدة "جدر الحسين": "إذ حاول الخوف أن لا يطبخوا وضعوا/ جدر الحسين على الطابوق واتكلوا/ محرمٌ والبيوت الطابخات على/ مدّ العيون بكلِّ القائلين كلوا/ ناداهم الجدر في عاشور هل حطبٌ/ فادافعوا تحت جدر الشوق واشتعلوا/ لمّا الحصار اشترى منهم منازلهم/ باعوا.. وما طرقوا باباً ولا سألوا/ لكنه الجدر. 

إلّا الجدر! إذ وصلتْ/ إليه حاجاتهم.. ماتوا وما قبلوا".

هكذا يرسم مروان هذه الصورة للعلاقة بين الإمام وبين عشاقه، علاقة البذل والفناء بحبه، عبر تعالق شفيف بين صورة الواقعة الطفية وصورة الطقس العاشوري المتشح بالعشق.

ومن قصيدة لمظفر النواب، يقول فيها: (لست أبكي/ فإنك تأبى بكاء الرجال/ ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني).

وعبر ثنائية الدمعة والعين يشكل النواب صورته الشعرية، مستخدما تقنية المفارقة من خلال مجازية تشبيه ذات الشاعر بالدمعة. 

وجمالية هذه الصورة تستند إلى حداثة التشكيل ليس من خلال عملية المفارقة فحسب، وإنما من خلال حداثة التعامل مع شخصية الإمام وثورته العظيمة، فبعد أن كانت القصائد الحسينية تتخذ سمة البكائيات وإعادة رسم الأحداث، أصبحت تتعامل مع الحدث ورمزيته باعتباره محفزا للثورة ومقاومة الظلم والطغيان، ورفض الخنوع والذل، ومع ذلك فهي لا تخلو من البكاء ولكنه بكاء من نوع مختلف بكاء الذوبان العشقي.

إن هذا العرض البسيط لنماذج الصورة الشعرية للقصيدة الحسينية الحديثة هو مجرد إشارة لما هو أكثر عمقا وسعة لا يتسع المجال لحصره واستقرائه.