هل سينتج ما يكفي النقاد مشقة التحليل والتفسير؟

ثقافة 2024/07/22
...

  د. نادية هناوي

يتصور كثيرون أن الذكاء الاصطناعي تطبيق يتفوق في خارقيته على الذكاء البشري، وأن ليس للإنسان أن يتنافس معه في أي ميدان من ميادين الحياة، غير أن الذكاء الاصطناعي في حقيقته ليس تطبيقا واحدا، وانفجاريته غير عامة كي تشمل الحياة كلها، بل هو مخصوص بمجالات علمية صرفة مثل الطب والهندسة والزراعة والصناعة والاقتصاد وعمل الروبوتات. أما المجالات الأخرى الإنسانية والإبداعية، فيبقى فيها التفوق للذكاء البشري.
ومن المهم في مجال مقارنة الذكاء الاصطناعي بالذكاء البشري التأكيد على أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تقوم في الأساس على محاكاة البنية العصبية للدماغ البشري بطريقة (تعلم الآلة) ووظيفتها تعلم أنماط البيانات عبر شبكات عصبية اصطناعية، ومن بعدها يأتي (التعلم العميق) ووظيفته توليد محتوى نصي بصري، لا يتعدى عمله حدود القراءة الآلية التي على وفقها يتم تجميع البيانات والتعرف إليها صوتا وصورة وتنظيمها وتحليلها وتشخصيها ومعالجة النصوص وفهمها وإجراء المحادثات والتوليف اللغوي والترجمة الآلية على وفق أنظمة تعمل بشكل يحاول أن يتشبه ببعض قدرات الإنسان العقلية وليس مضاهاتها كلها.  
ومهما اختلفت تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإن هناك مناطق عقلية تتعلق بالإبداع في بعديه العاطفي والفني لا يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إلى آليات عملها. فالذكاء الاصطناعي آلة مدربة على التجميع والتصنيف والتنظيم والتحليل والتعرف والترجمة والتمييز لملايين البيانات وليس قادرا على الشعور الذاتي أو الادراك العقلي لنفسه. وصحيح أن الذكاء البشري لا يستطيع انجاز ما ينجزه الذكاء الاصطناعي بذات السرعة والكفاءة غير أن الدماغ البشري مدرب على تأدية مهام، لا سبيل للحواسيب لأن تضاهيها، لافتقارها إلى عاملين: الأول وراثي جينالوجي والآخر بيئي اجتماعي. ومهما كانت فائقية الذكاء الاصطناعي، فلا يمكنه أن يكون ممتلكا ذينيك العاملين، ومن ثم لا مجال أمامه لأن يكون مولِّدا للأفكار من تلقاء نفسه. وعلاوة على ذلك فإن الذكاء البشري ليس مجرد قدرات حسابية، بل هو أيضا قدرات نفسية عاطفية وعلاقات اجتماعية.
ولأن لا ضابط يحدد قدرات البشر العاطفية والاجتماعية، يغدو محالا على الآلة الذكية أن تتفهم فاعلية الذكاء البشري في بعده الإنساني. ولا خلاف في أن الأدب من أكثر مجالات الحياة مساسًا بإنسانية الإنسان، ولهذا تقف قدرات الذكاء الاصطناعي عاجزة عن اجتراحه والابتكار فيه.
ولا يعني هذا أن الأدب أعلى شأنا من الذكاء، بل الأدب جزء من الذكاء لكن عملية إبداعه لا تعتمد على الذكاء بقدر ما تعتمد على الموهبة وتوفر الميول الذاتية، وهو أمر يتفاوت فيه مبدعو الأدب تبعا لمؤثرات النشأة الاجتماعية.
وكلما كانت الموهبة أصيلة والاكتساب مكثفا، تعززت قدرة الفرد على التعلم الذاتي وتطوير أساليبه في التعبير الذهني والخلق الإبداعي وممارسة التفكير النقدي. وبها جميعا يتأهل لأن يكون أديبا يتمتع بمهارات فنية تعززها ذاكرة مدربة على التركيز والانتباه والتقاط تفاصيل الحياة. وبهذا يكون الإبداع عملية ذاتية معقدة فهي شعورية حينا ولا شعورية حينا آخر، حسب سياقات اجتماعية وسيكولوجية معينة. وهو ما لا يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تتعلمه أو تتدرب على آلية عمله فضلا عن أن تحيط به.
إن تفوق البشر في المجال الإبداعي، أمر يقره صانعو الذكاء الاصطناعي الذين يعرفون أن أخلاقيات توظيفه تقر بالخصوصية والمسؤولية عن الأخطاء في التمييز الآلي عند استعمال أي تطبيق من تطبيقات هذا الذكاء.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال حول ما يسمى (الذكاء الاصطناعي الأدبي) هل يمكنه إنتاج الأدب والخضوع لتلك الأخلاقيات؟ بدءًا نقول إن تقنيات هذا النوع من الذكاء الاصطناعي لا توِّلد أدبا، وإنما هي تنمذج النصوص شعرا أو قصة أو نقدا على وفق ما تدرب عليه (تعلم الالة) من كميات كبيرة من النصوص الأدبية المنشورة على الشبكة العنكبوتية فينتج من خلالها هياكل نصوص مستعادة، تشبه في أسلوبها ولغتها النصوص المستودعة في ذاكرة تلك الشبكة.
ويخطئ من يتصور أن هذا الذكاء سينتج شعرا اصطناعيا أو أنه قادر على ابتداع قصص وروايات اصطناعية أو أنه سيكتب نقودا أدبية، تكفي النقاد مشقة التحليل والتفسير. لسبب جوهري هو أن الآلة الذكية عامل مساعد فقط، ولا قدرة لها على مضاهاة الدماغ البشري كي تكون بديلة عنه، وهي المدربة على التجميع من دون شعور عاطفي أو تجربة ذاتية.
وإذا قيـــــــل إن الذكاء الاصطناعي رأس مال يغني الأميين الرقميين ويحول دون (تفشي الأميَّة الثقافية والرقمية ويمكِّن الأستاذ الجامعي الأمي رقميا من ملاحقة ما هو جديد في تخصّصه الأكاديمي) وأن (منصَّات التواصل الرقمية وتطبيقاتها المتعدّدة والمتنوعة ستتجاوز دور الكتاب التقليدي) فإن ذلك القول مجرد تطلع مشروع لكن مبالغ فيه، لأن الذكاء الاصطناعي لا يصنع لوحده باحثين ونقادا بارعين أو أن نتصور (عندما نتحدث عن حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليوميّة، فنحن عمليًّا نتحدث عن كلِّ شيء.. وبه يمتلك حاضر العالم، ويتمكن من التحكم بمصائره ومصائر من لا يمتلك هذا الذكاء) مما ذهب إليه د. عبد الجبار الرفاعي في مقالته (أميّة الأساتذة الثقافيَّة والرقميَّة) المنشورة في جريدة الصباح العراقية بتاريخ 3/ تموز/ 2024 .
وانبهر د. ضياء خضير بقدرات الذكاء الاصطناعي، فوجد فيه “دفء الناقد البشري” بعد أن جرَّب تحليل نص شعري من خلال الذكاء الاصطناعي، وأورد التحليل في مقالته (تجربة تحليل قصيدة شعريَّة بواسطة الذكاء الاصطناعي) المنشورة في جريدة الصباح بتاريخ 3/ تموز/ 2024 وفيها شدّد بكثير من الاستبشار على (قدرة هذا الذكاء العجيبة على اجتراح معجزات في ثوانٍ معدودات.. (وأنَّ الإنسان.. صار مصنوعاً بعد أنْ كان صانعًا؟)
ومن الغريب وصف د. ضياء التحليل المتضعضع الذي قدمه الذكاء الاصطناعي بـ (الذكي) وأنه (الناقد العجيب) الذي (فصّل.. ووضع لكل موضوع عنوانًا مناسبًا بطريقة أكاديميَّة متدرجة) مع أن ذاك التحليل من البساطة ما لا يقنع أي طالب في الدراسة الاولية، وسيسخر منه لا محالة أي طالب في الدراسات العليا. وعلى الرغم من كل الاستبشار الذي أظهره الكاتب بالتحليل الاصطناعي، فانه استدرك بالتأكيد على أهمية حقوق الملكيَّة الفكريَّة والنواحي الأخلاقيَّة لدى من يبني طموحاته على الذكاء الاصطناعي.
إن هذا الذكاء ليس عصا سحرية كما في الأساطير، يأتي بما هو عجيب وغريب، بل هو (تعلم الالة) لما هو مستودع من بيانات في الذاكرة الحاسوبية. وهذه الآلة من دون التعلم لا تعمل، بل لا تحاكي. أما مسألة اعتبار هذا الذكاء دقيقا لأنه لا يعرف العواطف، فأمر حسن إن كان التحليل دقيقا وعميقا وكان المجال غير أدبي. أما في مجال النقد الأدبي، فإن الذكاء الاصطناعي لن يكون موضوعيا ولا قادرا على أن يكون ذا بعد عاطفي، لأنه ببساطة تجميع للبيانات ومحاكاة لها لا غير. وقد تكون في هذا التحصيل، خيبة أمل لمن يتصورون أنّ الذكاء الاصطناعي سيغنيهم عن الموهبة ومن ثم لا (حاجة إلى الثقافة النقديَّة) كما ذهب د. ضياء خضير.
ولعل للرغبة في بزّ الأدباء المبدعين وتحدي أصحاب المواهب دورا في تهويل قدرات الذكاء الاصطناعي. مما نجده في سلسلة مقالات كتبها د. عبد الرحمن المحسني، وفيها دوّن تجاربه الشخصية مع الذكاء الاصطناعي، متوصلا إلى ما سماه (شاعر الذكاء الاصطناعي) و (الروبوت الآلة: الشاعر العربي الكبير) و( الروبوت: الشاعر السعودي الكبير) مستبشرا أن الذكاء الاصطناعي سينتج مستقبلا (نصوصا فارقة ذات قيمة إيقاعية وفنية) ويقول: (ما أراه هنا يفوق النماذج التي كنت أوردتها في كتابي في أدب الذكاء الاصطناعي حيث نرى بناء لافتا للوزن والروي ومتعلقاته، وهذا يعني أن القادم يعد بتميز أفضل.) وانهى مقالته بالدعوة( إلى سن قوانين تحمي نص الذكاء الاصطناعي من الاعتداء عليه، وأذكر بأن الذكاء الاصطناعي. قد ينتج نصا ربما يفوق نص الإنسان مستقبلا، ذلك أنه يعتمد على (بيغ داتا) تضم ملايين النصوص الشعرية في الكون مما لا يستطيعه العقل البشري، ومتوقع أن تنتج نصا فارقا، ويجب أن تتخذ القوانين لحمايته).
لا شك في أن بزّ الذكاء الاصطناعي لشعراء العمود والتفعيلة مجرد أمل يتطلع إليه المتطلعون من الذين تفوتهم حقيقة عجز تطبيقات الذكاء الاصطناعي عن مجاراة الدماغ البشري في البعد الجينالوجي والحس العاطفي. ولو وظف مستخدمو هذا الذكاء الاف سلاسل الماركوف ولغة البرمجة البايثون، واعتمدوا عشرات المختبرات من اجل ابتداع شعر جديد، فلن يجدوا سوى محاكاة إيقاعية على منوال ما أودع في الشبكة العنكبوتية من قصائد شعرية لكبار الشعراء وصغارهم. علاوة على ذلك، وسواء استعملنا أيا من تطبيقات Chat Gpt 3،4،5 فإن لا فرق في استعمال الذكاء الاصطناعي، لا من ناحية الجودة في الافادة المعرفية، بل من ناحية الاحتكام إلى أخلاقيات هذا الذكاء في إنتاج محتوى أصيل لا يسطو فيه مستخدمه على جهود المبدعين ولا ينتهك حقوق الملكية الفكرية. ونذكر في هذا السياق ما حصل من سطو على أرشيف الصحافية الأميركية كريستينا وارين وانتحال شخصيتها في موقع "تواو"(TUAW) عبر كتابة (تقارير مولَّدة بالذكاء الاصطناعي) وتفاصيل أخرى حوتها مقالة (استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الإعلامي يُثير جدلاً مهنياً) المنشورة في جريدة الشرق الاوسط بتاريخ 14/ 7/ 2024.
إن حقيقة الذكاء الاصطناعي ويرمز له بـ AI - اختصارا لـ Artificial Intelligence ويقابله عربيا ذ. ص - تكمن في ادراك الفارق الكبير بين التوليد والإبداع. وهذا ما تناوله الكتاب الصادر هذا العام عن Routledge بعنوان (الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم العالي باستعمال تطبيق جي بي تي شات) تأليف سيسيليا كا يوك تشان وهي أستاذة في جامعة هونغ كونغ، وتوم كولونتو وهو مؤسس شركة في تكنولوجيا التعليم. ويقدم هذان المؤلفان مجموعة واسعة من الأدوات والأفكار والتحليلات التي تُوجه التطبيقات المستقبلية للذكاء الاصطناعي التوليدي. ويقصدان بالتوليدي إنتاج محتوى جديد بشكل آلي بناء على بيانات يقوم تطبيق Chat GPT بدمجها في تصميم المناهج الدراسية باستعمال تقنيات الشبكات العصبية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. ويضم الكتاب سبعة فصول، منها الفصل الثاني (القراءة والكتابة بالذكاء الاصطناعي) وهي إحدى قدرات الذكاء الاصطناعي في التمكن من الفهم والتقييم والتفاعل واتخاذ القرارات. الأمر الذي يتطلب من مستخدمي هذا الذكاء الوعي بآثاره الأخلاقية والاجتماعية وفهم تأثيرات الخصوصية في استعماله والتعامل بمسؤولية مع أنظمته. ومن توصلات هذا الكتاب:
-  الثقافة التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية لتمكين الأفراد ومساعدتهم في المجالات المهنية ( وليس الخلق الابداعي) ومن ذلك مثلا مجال بيداغوجيا التعلم والبحث.
- ضرورة وجود سياسات تعليمية متقنة للذكاء الاصطناعي، توفر صياغة نموذجية لإصلاح التعليم العالي على اختلاف مؤسساته الأكاديمية.
- أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحاكي بشكل أساس الذكاء البشري بهدف تقليد تفكير البشر وأفعالهم. وشهدت إلكترونيات هذا الذكاء تقدماً كبيراً من ناحية سرعة الحوسبة وتخزين البيانات وسعة الذاكرة والتعلم العميق.
- الذكاء الاصطناعي، ليس خيالا علميا وروبوتات خارقة، وإنما هو علم النظم وبرامج الحاسوب المطورة بواسطة الإنسان، والتي يمكنها أداء مهام عادةً ما تتطلب الذكاء البشري في معالجة الصور والكلام والترجمة.
- تشهد منصات اليوتيوب وأمازون وتاوبا وميتا (فيسبوك) وجوجل ترجمة، وجوجل خرائط، ومايكروسوفت وغيرها تطورا مستمرا، يجعلها أكثر تعقيدًا وأهمية، مما يستدعي من كل فرد، بغض النظر عن العمر أو المهنة، أن يكون ملمًا بالتقنيات الحديثة وخاصة التكنولوجيا الذكية. - أن السلامة والأمان في أنظمة الذكاء الاصطناعي تعني فهم المخاطر المحتملة مثل انتهاكات الخصوصية والانحيازات الخوارزمية أو النتائج غير المقصودة. وأن الوعي بحسن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي تعني معرفة كيفية حماية المعلومات الشخصية وآثارها الرقمية بشكل أخلاقي وبتمييز من دون الاعتماد المفرط أو سوء الاستخدام.
إن أهمية الكتاب أعلاه تأتي من تأكيده على فهم مبادئ الذكاء الاصطناعي وكيفية عمل أنظمته قبل المباشرة بإطلاق أي حكم يتعلق بهذا الذكاء وامكانياته المستقبلية في التعلم الآلي وحيازة الشبكات العصبية ومعالجة البيانات. وأن من الضروري التفريق بين استعمالات الذكاء الاصطناعي في المجالات العلمية كالرعاية الصحية والتعليم والتكنولوجيا وبين استعمالاته في مجالات يكون التعامل فيها مع المخيلة والعواطف البشرية، وتفسيرها والاستجابة إليها كما في الأدب والفن. ولن ننسى أنّ لأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي دورا مسؤولا، يجعل مستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي يعمل على وفق بنود وقيود واعتبارات قانونية تحفظ حقوق الأفراد وتعزز العدالة والشفافية والمساءلة باتجاه مستقبل رقمي واضح وحقيقي.