النِداء

ثقافة 2024/07/23
...

 محمد جبر حسن 


تقدم وهو على ظهر جوادهِ الأبيض إلى وسط الساحة الترابية، فتعالت صيحات الناس بالتكبير إلى عنان السماء، أدار الفارس بصره في هذه الحشود وانتظرها لتهدأ، دفع بعمامته الخضراء إلى الوراء قليلًا حتى بَدَت غُرَّتهُ مِن بَعيد، رفع كَفّهُ اليمنى عاليًا مومياً فسكتت الجموع الوافدة من كل المناطق القريبة والتي أحاطت بمكان مراسم التشابيه الحسينية (السبايا)، عمَّ السكون بانتظار ما سوف يقوله لهم. 

مشى بفرسهِ خطوات وئيدة سمعتُ خببها عن بعد، بعدها عَلا صوته وهو شاهراً سيفه قائلًا بصوتٍ رخيم:

أَيُّها النَّاس.. أَيُّها النَّاس..

إنّ الدَعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذِلّة

وهیهات منّا الذِلّة، 

هيهات منّا الذِلّة..

تعالت بعدها أصوات الناس تردّد:

 هيهات منّا الذِلة 

هيهات منّا الذِلّة.

حتى إني لحظتها سمعتُ والدي يردّد هذه الكلمات وهو رافعٌ قبضته اليمنى نحو الأعلى، بينما يده اليسرى تَمسكُ بيدي بقوة لئلا أضيع منه وسط هذه الجموع الكبيرة التي ضمّت الشيوخ والعجائز والنساء المتشحات بالسواد، وضمّت أطفالاً يقاربونني عمرًا أو أكبر أو أصغر مني بقليل.

حينها لم أعرف لماذا تملكني الخوف.. ربما من رهبة الصوت ووقع الكلمات، رغم إني لم أفهم معناها، شعرَ بي والدي فانحنى ووضع فمه قرب أذني وقال:

 لا تخف.. لا تخف يا ولدي.. 

وبسرعة لم اتوقعها رفعني بكلتا يديه وأجلسني على عاتقه وقال لي:

ارفع يدك و إهتف معي:

هيهات منّا الذِلة 

هيهات منّا الذِلة

 من على كتف والدي رأيت المكان بوضوح أكثر، كان أشبه بساحة كرة قدم، على جانب منها كان هناك معسكر نُصبت فيه ثلاث خيام جلسن فيها نساء مغطيات وجوههن مجلببات بالسواد من أعلى رؤوسهن إلى اخامص اقدامهن، ويقف قربهن أطفال، وهناك عدد من الرجال يطغى اللونان الأبيض والأخضر على ثيابهم، ومعهم ثلاثة فرسان، أحدهم هذا الفارس الوقور المهيب الطلعة وهو نفسه الذي ألهب افئدة الناس بصوته حينما سمعوا كلمته ورددوها بعده، ويقف إلى ميمنته فارس جميل كالقمر يعتمر عمامة خضراء، ويرفع بأحدى يديه سيفاً ويحمل بالأُخرى السِّقَاء*، بينما وقف على ميسرته فارس كهل يعتمر عمامة بيضاء والشيب يغطي لحيته وحاجبيه. 

أما في الجانب الآخر من الساحة، فقد كان هناك معسكر انتصبت فيه خيمة كبيرة واحدة خصصت لأمير الجيش اصطفت أمامها صفوف عدّة من الرجال المسلَّحين بالسيوف والرِماح وهم يضعون ريشات طويلة على قلنسواتهم، وجلّ ملابسهم ملونة باللونين الأحمر والأصفر، ويسمع من جهتهم اصوات مزامير وقرع طبول ومعهم عدد كبير من الفرسان على خيول تقدح الأرض بحوافرها فتثير النَقْع* فوق رؤوس الناس.  

لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى كنت وجهًا لوجه أمام ضريح يعتليه ويغطيه قفص مذهب كبير وسط بناء عظيم تتلألأ جدرانه بالمرايا والزجاج الملوّن باللون الفيروزي، وتضيئه ثريات الكريستال الكبيرة المتدلّية من أعلى السقف.     

سألت والدي: أبي.. ما هذا المكان؟ 

أجابني قائلاً والدمع يملأ عينيه: هل تتذكر يا ولدي الفارس الذي صاح هيهات منّا الذِلّة؟ 

قلت له نعم، وسمعتك أنت تقولها.. وأنا قلتها أيضًا.

بُنيَّ.. ذاك الفارس كان يجسد شخصية هذا الإنسان الثائر ضد الظلم والمدفون هنا منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة!

بعد هذه الزيارة بعقود وفي غفلة من الزمنِ اختلط فيها الحق بالباطل وتلبس الشيطان بثوب الإيمان، غزت أسراب من الخفافيش والأفاعي جزءًا عزيزًا من البلاد وأرادت أن تستبيح بقية المدن وتعيث فيها فسادًا، فنادى بالناس صوت هو أشبه ما يكون بصوت الفارس الذي سمعته في طفولتي ولم يغادر ذاكرتي ولا وجداني، حينها تسابقنا أنا وولدي الأكبر (حُسين) للذهاب لساحات الجهاد تلبيةً لهذا النداء العظيم، وقد هالني منظر أفاض الدمع من عينيّ واقشعر له جلدي عندما رأيت الآلاف من الشباب والكهول يتسارعون لتسجيل اسمائهم في مكاتب خصصت لهذا الغرض، كانت هناك مفاجأة كبيرة تنتظرني لم أكن اتوقعها لكنها زادتني إيماناً وقوة عندما شاهدت والدي بلحيته البيضاء قد سبقنا وبيده بندقيته وهو يهتف بِمن معه:

هيهات منّا الذِلة   

هيهات منّا الذِلّة.

* السِّقَاءُ: وعاءٌ من جلْدٍ يكونُ للماءِ واللَّبَن.

*النَقْع: الغبار المثار من حوافر الخيل