د. كريم شغيدل
ابتداء من حركة الشعر الحر، أواخر أربعينيات القرن الماضي، اتخذت تحولات النص الشعري مساراً ثقافياً يمكن الاستدلال عليه بسهولة، وذلك من خلال الإحاطة بالسياقات الثقافية التي أنتجت تلك التحولات، فكان لانتشار الأجهزة السمعية والمرئية وحركة السينما وشيوع الظاهرة المسرحية بالغ الأثر، إلى جانب تأثيرات الفن التشكيلي العراقي الذي تأثر بحركة الفن الحديث، من خلال احتكاك التشكيليين الرواد ببعض الفنانين البولونيين، كما شكلت حركة الترجمة المحرك الأساس لإحداث التحولات،
وقد شمل ذلك شكل النص الشعري ومضمونه وتوظيفاته، لا سيما تأثيرات الشعراء الإنجليز المحدثين أمثال ت. س. إليوت وعزرا باوند ووردز وورث وييتس وغيرهم، فجاءت التوظيفات الأسطورية والتاريخية لتشكِّل سمة من سمات القصيدة الحرة، فضلاً عن تنامي الحركة السياسية ونشأة الأحزاب اليسارية والقومية والدينية التي شكَّلت مثلث الثقافة الأيديولوجية. وقد نقلت معظم الحركات السياسية محمولاتها الفكرية للأدب، ذلك أنَّ الشعر لم يسلم من تأثيرات النزعات الأيديولوجية للشعراء، بل إنَّ بعض قصائد تلك الحقبة تعدُّ نصوصاً أيديولوجية، لم تتأثر بمحتوى الخطاب الفكري فحسب، وإنما تأثرت بالسلوكيات الحزبية والانحيازات الفكرية والعلاقة الأيديولوجية مع التراث وبالصراعات مع السلطة أو الأحزاب الأخرى التي بلغت حدَّ التصفيات الدموية وإطلاق شعارات الموت وقتل الآخر، لكنَّ العامل الأهم في تقديري هو التحول المدني الذي حدث في بنية المجتمع واتضاح معالم المدينة الحديثة وبعض مظاهرها وتقاليدها، وسرعة استجابة المجتمع للتحول من تقاليد القرية إلى الاندماج في مجتمع المدينة، حيث الحياة السياسية الحافلة والصحافة والمنتديات والجمعيات الثقافية وأماكن اللهو والترفيه والبنية العمرانية.
نجد أنَّ النص الشعري، وهو نص مركزي في الثقافة العربية، سريع الاستجابة للتحولات الثقافية قديماً وحديثاً، فالقصيدة العمودية "الكلاسيكية" كانت من نتاج البيئة الصحراوية، وهي تحاكي امتداد الصحراء وهندسة بيت الشَعر الذي كان يقطنه البدوي، وقد عكس الشعر المسمى بـ "القواديسي" شكل قواديس الساقية في البيئة الريفية، كما عكس الموشح مظهراً من مظاهر الترف الأندلسي، أما الأشكال الشعرية الأخرى مثل: "الكان كان والمواليا" وغيرهما فقد عكست بيئة بغداد العباسية ومظاهر التمازج الثقافي والحضاري فيها، ولاحقاً تفشت أنماط شعرية مختلفة، خلال ما يسمى بـ "الحقبة المظلمة" كالمشجرات والمخمسات والمسمطات وما شاكل ذلك، وجميعها تعكس انسحاب الشعر إلى الدوائر الشخصية الضيقة، ولعل ما سمي بـ "البند" كان أنضج تلك الأشكال تمثلاً للتحولات الثقافية، ما لم نقل إنَّه يمثِّل الإرهاص الأول لحداثوية الشكل الشعري، ولولا اقتصار مضامينه على الموضوعات والأغراض الشخصية والأخوانيات، لكان خير من يمثل الحداثة الشعرية، وبصورة عامة فإنَّ "تطور هذا الشعر لم يكن دائماً على نسق أو حسب خطى منتظمة، وقد يبدو هذا طبيعياً بسبب اختلاف الأجيال والموارد الثقافية وحاجات الوقت" كما يرى إحسان عباس، بمعنى آخر إنَّ المتغيرات الفنية التي تطرأ على الأشكال الشعرية لها ما يسوّغها من أطر ثقافية واجتماعية وبيئية وأيديولوجية وحتى سياسية واقتصادية.
لقد حاول الستينيون الخروج على نمط القصيدة الخمسينية التي ارتبطت بمجموعة أنساق طغت عليها المنطلقات الأيديولوجية، متأثرين بمجمل التحولات الكونية التي سادت تلك الحقبة، التي كان من سماتها اتساع رقعة القلق الإنساني على خلفية سباق التسلح وتصاعد وتائر الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وظهور معادلات جديدة لصراعات دولية أو إقليمية كقضية فلسطين وغيرها، فضلاً عن ظهور حركات التحرر في مختلف بقاع العالم، إلى جانب ذلك نشطت في تلك الحقبة ترجمة النزعات الفكرية، لا سيما "الوجودية" التي أصبحت ظهيراً فلسفياً لشعراء الجيل الستيني، إذ لم يخلُ بيانهم المنشور في مجلة "شعر- 1969" من إشارات تحيل إلى الوجودية، بعد أن حفلت قصائدهم بالعديد من الإيحاءات والصور والدلالات المستمدة من الخطاب الوجودي.
وتجدر الإشارة إلى إنَّ البيان الستيني خرج على قاعدة تقسيم الشعراء إلى يساريين وقوميين، إذ وقَّعه اثنان من المحسوبين على اليسار "فاضل العزاوي وفوزي كريم" واثنان من المحسوبين على الحركة القومية "سامي مهدي وخالد علي مصطفى"، بمعنى آخر إنَّنا أصبحنا بمواجهة شعر جديد مفكَّر فيه، أي إنَّ له مرجعياته الفلسفية، وله قصدياته في بناء أشكاله المغايرة.
وعلى هامش الستينيات ظهرت "جماعة كركوك" المؤلفة من "فاضل العزاوي، سركون بولص، صلاح فايق، جليل القيسي، جان دمو، أنور الغساني، مؤيد الراوي، وفاضل عباس هادي" وقد تبنت هذه الجماعة الدعوة لقصيدة النثر، وقد جاءت مجلة "الكلمة" لتدعم تلك الدعوة، التي تعيدنا إلى ثلاثينيات القرن العشرين، على أيام روفائيل بطي ومعروف الرصافي وأمين الريحاني، إذ أطلقوا على نصوصهم آنذاك مسميات عديدة مثل: الشعر المنثور أو النثر المشعور أو النثر الفني، وهي الدعوة ذاتها التي ستتجدد في الثمانينيات، حيث تتحول قصيدة النثر إلى نمط شعري مكرس يجذب مختلف الأجيال.