إيمان حميدان: العلاقة مع الغرب كاشفة لهويتنا

ثقافة 2024/07/23
...

 حاورها: جهاد الرنتيسي 

  

تلتقط الروائية اللبنانية المقيمة في باريس إيمان حميدان خامة أعمالها من تحولات المكان والزمن، يطل من رواياتها جدل العلاقة مع الآخر، وتكتمل ثيماتها بالحضور الطاغي للنسوية، حاورتها لـ "جريدة الصباح" حول هذه المناخات انطلاقاً من روايتها الأخيرة "أغنيات للعتمة" التي تشكل منعطفاً في تجربتها، وكان 

هذا اللقاء:    


• الحميميَّة والهرب أبرز ثيمات الطرح النسوي في رواياتك، حضرت هذه الثنائية  في روايتك الأخيرة "أغنيات للعتمة" بشكل أكثر وضوحاً من سابقاتها، هل هي دلالة على هشاشة المرأة أم إيحاء بتراكم الظلم الواقع على النساء؟

ـ في أغنيات للعتمة أربع نساء ينتمين لأربعة أجيال. كل شخصية تميزت بصفة تطغى على صفاتها الأخرى وتمنح واقعها الشخصي أبعاداً مختلفة. 

الشخصية الأولى شهيرة هي الشخصية الأساسية رغم انها ليست الراوية. رغم هشاشة واقعها واجهت شهيرة الظلم على طريقتها، عبر الغناء وامتلاك حس أنثوي قوي يستشرف المستقبل. وليس صدفة أن تصفها الراوية أسمهان بأنّها تحتال على القدر. يجوز هنا إضافة المواجهة رغم الهشاشة الى تلك الثيمات التي ذكرتها في سؤالك. 

شهيرة واجهت وبقيت. أما ليلى فلم تظهر الرواية ما حل بها. أغلب الظن أنها رحلت. وإذا كان لا بدَّ من استعمال كلمة هروب بدلا من الرحيل، يرتبط الأمر بالتأكيد بطلب المرأة للحرية. انه هروب السجينة من سجن عائلي. 

• بقي الغرب ملاذاً لبطلاتك الشرقيّات رغم قسوة الحياة فيه، ظهرت في الرواية الأخيرة اشارات واضحة الى حالة من الاغتراب هناك، هل جاء ذلك نتيجة لإعادة النظر في الفكرة أم رؤية ما لم يكن 

مرئيا؟ 

ـ سؤالك يتعلق بموضوع صعب وأكثر تعقيداً من نظرة  الثنائية بين الملاذ والاغتراب. الآخر والعلاقة معه حاضران بقوة في مجمل أعمالي. من الصعب الدخول في عالم تاريخ لبنان الحديث من دون تقديم تلك العلاقة المتشابكة والشائكة مع الغرب. 

أرى العلاقة مرآة عاكسة ومقابِلة لهويتنا وتاريخنا وحين نضع أسئلة الهوية والتاريخ على الطاولة "الروائيّة" لا بدَّ من التحدث عن تلك المفارقات على لسان 

الشخصيات. 

 قصدت منذ روايتي الأولى "باء مثل بيت مثل بيروت" إظهار مقاربة جدلية أزاء الغرب. تعود كاميليا وهي الشخصية الرابعة من لندن الى بيروت، كذلك الأمر مع ميريام بطلة رواية "حيوات أخرى" التي تعود من أستراليا ثم كينيا الى لبنان. 

هناك حركة دائمة لتلك الشخصيات بين المكان الأول ومكان آخر بدا لي في معظم الروايات مؤقتا وغير نهائي. في "خمسون غراماً من الجنة" تهرب نورا من سوريا الى لبنان وليس الى الغرب بينما تعود مايا البطلة الرئيسية من الغرب الى 

لبنان. 

تغدو تلك الحركة "من وإلى" مكوكية في بعض الأحيان وترتبط ببحث متواصل وشعور طاغٍ بالفقدان. أترك دائماً الباب مفتوحاً للشخصيات النسائية بحيث يمكنها الحركة في الفضاء الروائي. قد يبدو المكان الآخر ملاذاً في بعض الأحيان لكنّه يلعب في لعبة السرد المحفّز الأول الذي يدفع الشخصية الروائيّة الى طرح أسئلة جديدة حول الهوية والتاريخ.

ولا بدّ من الشعور بالاغتراب مع الأسئلة، بمعنى أن نقف في مكان آخر كي نعيد النظر في ما كنا نعتبره من البديهيات، ونتحقق من ماهية وجودنا. 

قد يكون الغرب ذلك المكان الآخر، لكن في بعض الأحيان مسقط الرأس يغدو ذلك المكان الآخر لهؤلاء الذين اقاموا سنوات طوالاً في الغرب. الموضوع شائك ويكفي ان نلقي نظرة على رحلات أناس القوارب الذين يتوقعون الموت كل لحظة، والهجرات غير الشرعية من شواطئنا لنرى كم من التناقضات والمفارقات يحتمل

الموضوع. 

• للفنانة أسمهان شخصية وتجربة جدلية، تراوح هامش حضورها  في رواياتك الأولى بين اقتضاب واتساع، وأخذ هذا الحضور بُعداً فنيّاً في معظم الأحيان، اختلف هذا المنحى في روايتك الأخيرة مع اطلاق اسمها على جيل جديد من النساء المقهورات، ألا ترين مرواحة بين التمرّد والظلم في هذا الحضور؟

ـ لا توجد شخصية "صافية" في رواياتي. بمعنى آخر لا توجد شخصية أما مقهورة أو متمرّدة. تحمل كل شخصية تناقضاتها ومفارقات سلوكها وسيرورة حياتها. تختلف كل منها في رؤيتها لنفسها وللعالم. تتميز كل شخصية عن الأخرى من حيث طاقتها على اللعب والمواجهة والتحمّل والتطور. كل واحدة منهن تواجه القهر على طريقتها. لا أرى أن الراوية الأساسية في أغنيات للعتمة، أي اسمهان، مقهورة أو مظلومة. هي التي تروي ومن تروي لا بدَّ أنها تواجه القهر عبر السرد. نحن نسرد لنواجه الظلم والقهر. ولم يكن صدفة أن أطلق على اسم تلك الراوية بالتحديد اسم اسمهان لما تعني لي تلك المرأة/ الفنانة والتي أعتبرها من اولى النسويات العربيات ولم يتم الاعتراف بنسويتها ولا بسيرورة حياتها الاشكالية. ربما تلك العلاقة المتوترة والدائمة بين التمرّد والظلم هي متن قصص النساء في مجتمعاتنا.

• تلتقي الرواية الأخيرة "أغنيات للعتمة" مع ثاني رواياتك "توت بري" من حيث اتساع حضور الريف كمكان للحدث، هل جاء ذلك نتيجة رغبة النبش في بواكير الذاكرة أم عودة لمحاولة توظيف الانثربولوجيا في فهم جذور معاناة النساء في بلادنا؟

ـ هذا صحيح. الريف كمكان روائي مرتبط بذاكرة جماعية أعرفها جيداً. وظهرت ثمار بحثي الأنثروبولوجي الذي أنجزته نهاية عام 2006 في أكثر من رواية، بدءاً من "حيوات أخرى" وحتى الرواية الأخيرة "أغنيات للعتمة". قمت ببحث عن أهالي المفقودين في الحرب اللبنانية ومن الطبيعي ان يعتمد بحثي على مقابلات عديدة اجريتها مع أمهات وزوجات وشقيقات وبنات المفقودين. قصص لا تنتهي، بطلاتها نساء يمتزج فيهن العنف السياسي مع القهر البطريركي والاجتماعي. أجد متعة في استعمال أدوات بحثيّة ومقاربات العلوم الإنسانيّة اثناء الكتابة 

الروائية.

• تعيد رواية "أغنيات للعتمة" الإشارة الى ممارسة الحب بلا حميميّة التي ظهرت بشكل أو بآخر في روايتك "حيوات أخرى" والأثر الذي تتركه الممارسة على نفسية المرأة، ألا ترين مبالغة في محاولة الإيحاء بفعل الاغتصاب، لا سيما أن عوامل غياب الحميميّة متعددة وقابلة للتغير بفعل الحالة النفسية وتحولات الشوق؟

ـ لا أرى في أيٍّ من رواياتي إيحاءً لفكرة الاغتصاب. أرى السلبيّة، نعم. لكن السلبية أمر مختلف عن الاغتصاب. تدخل الشخصية في الرواية في عملية مضاجعة وقد يكون تفكيرها في مكان آخر ذلك أنّها كشخصية "حيوات أخرى" مثلا قد تكون مشغولة بأمور أخرى. ألا أنها تدخل في تلك العلاقة الحميمة بمحض إرادتها وفي الوقت نفسه بمحض "غربتها" إذا جاز 

القول. 

هناك البحث والفقدان والشعور بالغربة، أمور تطغى على رغبة الشخصية الأنثويّة وتحتل وجدانها. ميريام تقف على رمال متحركة ليست مسؤولة عنها. تترك أحيانا للقدر ان يمسك بيدها وتبقى هي مشغولة بأمور أخرى. تلك الشخصية الهاربة من حرب أهليَّة بعد فقدان شقيقها الوحيد الذي قتل برصاصة طائشة، ترافق أبا تحول إلى نصف رجل وأم، اختارت الصمت كأسلوب مواجهة. تتزوّج وتبقى وحيدة مع نفسها في الوقت نفسه. مفارقات المشاعر وتناقضاتها موجودة بقوة في كتاباتي كأن الشخصيات تبقى دائماً في طور التكوين، والبطل الذي يتّسم بصفات واضحة ونهائيّة لا وجود له.

• يغترب الجسد عن الإنسان وتتكيف الأجساد مع الغربة في روايتك الأولى "باء مثل بيت مثل بيروت" هل يندرج ذلك في إطار غياب الحميميّة أيضا؟

ـ لا نستطيع الحديث عن الحميمية والجسد والرغبة في رواياتي من دون وضعها في إطارها الزماني والمكاني. "باء مثل بيت مثل بيروت" رواية عن نساء شهدن الحرب وتحدثن عنها. هي بمثابة شهادات، حيث جرى السرد في مكان موصد ومغلق خوفاً من عنف الشارع. 

في زمن الحرب يقف العنف بوجه الحميميّة، وتتحول اليوميات وساعات الليل الى فعل مقاومة للموت. في زمن الخوف تتحول الرغبة وحميميّة الجسد لشيء آخر لنسمه التضامن أوالتواطؤ.  الحروب تدمّر ما قد يجمع عاشقين وتبعدهما عن بعضهما كما جرى مع ليليان وزوجها في "باء مثل بيت مثل بيروت". غابت الحميميّة بينهما، وعادت الرغبة الى ليليان حين التقت بحبيب قديم لها بعيداً عن الاطار الزماني والمكاني للعنف والحرب، وعاد الاحتفال بحميميّة اعتقدت أنها غابت من دون 

عودة.  

• بيروت محكومة بالخوف والصمت والإذلال في رواية "خمسون غراماً من الجنة" ولم تكن خارج هذه الدائرة في "أغنيات للعتمة" التي تدور أحداثها في زمن سابق، لأي حد تأصّلت هذه المظاهر في حياة المدينة لتعطيها سمات مختلفة عن السمات المتعارف عليها كمدينة للحب واللهو والحرية؟

ـ قد تكون علاقتي ببيروت مختلفة. ربما تكون مسألة جيل. طالما رأيتها مدينة للفن والادب والاختلاط والثقافة المغايرة والسياسة التي تحلم بالتغيير والمعارضة والتظاهرات. هذا يعود بالطبع الى انني تعرفت الى بيروت عشية بدء العد العكسي لما وصفتها أنت به. 

لم اتمتع بمدينة لاهية للأسف! أصبحت بيروت أليفة لي في سبعينات القرن الماضي وأقمت فيها بداية الحرب الأهلية.

• للحب قدرته على مقاومة إفرازات واقع المنطقة في رواية "خمسون غراماً من الجنة"  ويطل الاشتهاء مقرونا بالكآبة في بعض الأحيان، جاء التباس المشاعر نتيجة للتشوهات التي ألحقتها علاقات الحروب والصراعات بالبشر، لأي حد يستطيع عشق معتل توفير ظروف استثنائية يبنى عليها فعل المقاومة؟ 

ـ هل تقصد علاقة نورا بكمال؟ لا أستطيع أن أصف علاقتهما بالعشق المعتل!، هو عشق قوي وما يدور حولهما من عنف وحرب يجري في عالم معتل ينكر على الافراد عواطفهم وأحلامهم. الحب فعل مقاومة. العنف قتل نورا لكن الحب استمرَّ وأخذ أشكالاً أخرى عبر السرد وعبر مايا التي عادت لتفتش عن كمال لإكمال حكاية الحب. 

• تحاول البطلة اختراع أماكن مستقرة لإقامة مؤقتة ورحيل مؤجل، لكن ذاكرتها تلاحقها لتشعرها بالذنب، وتُفشل المحاولة في رواية "حيوات أخرى" مما يدفعها الى العودة للمكان الاول، هل يعني ذلك أن أماكننا الاولى ملاذنا لحل تناقضاتنا الداخلية، وهشاشة فكرة عولمة الوجع؟

ـ أعتقد أنّه لا بدَّ من المكان الأول لمواجهة الذات والتفتيش عن أجوبة حول أسئلة الهوية والانتماء والجذور. في "حيوات أخرى" تعود البطلة ميريام معتقدة أنّها عادت لحل مسألة الميراث بعد موت أخيها وهي تواجه عودة نور، الذي تعرفت اليه هو العائد ليفتش عن جذوره، بتهكم واضح في اللقاء الأول في مطار عربي بانتظار الطائرة التي ستقلهما الى بيروت قالت له  "تريد التفتيش عن جذورك!  لدي الكثير من تلك الجذور ومستعدة أن أعطيك الكثير منها". هي لم تعد لنفس الهدف لكنها تجد نفسها باقية بينما نور الذي أتى للتفتيش رحل ثانية. بينهما يختلف معنى البقاء ومعنى الرحيل. بين البقاء والرحيل تأخذ التجربة التي عاشاها معا معنى جديدا. كل يعاود النظر اليها بطريقة مختلفة عن الآخر. على أرض الاختلاف تطرح الأسئلة على الذات وعلى الآخر. هي مفارقات الحياة التي تضع أمامنا قصصاً وحوادث تغير من أهدافنا وسيرورة طرقاتنا.

• كانت حركة الزمن بطيئة في روايتك الثانية "توت بري" مقارنة مع الاولى "باء مثل بيت مثل بيروت" هل كان ذلك نتيجة لأنّ أحداثها تدور في القرية بعيداً عن رتم حياة المدينة وحروبها؟

ـ هل رأيتها كذلك؟ للحقيقة لم أفكر بالأمر سابقاً. ربما إيقاع الحرب التي تغير من مصائر الناس بين صبح ومساء. خوسيفا رحلت في "باء مثل بيت مثل بيروت" ولم تعد. اختفت ربما أو قتلت، بينما العنف في الشارع يترك الناس خائفين وربما لا يستطيعون النوم. إنّه ايقاع الحرب ربما، الذي لم تشهده المدينة فحسب بل قضى على مجتمعات كاملة في الريف وغيّر مصائر سكانها عبر التهجير إن لم نقل القتل. مشهد الرحيل في فصل مهى حدث بالكامل في بلدة ريفيّة.