كمال عبد الرحمن
إن الدخول إلى مملكة العنوان يشبه الدخول في حقل ألغام، فأول ما يطالعنا فسيفساء من الدهشة والغرابة والغموض والجمال والمباشرة والتقليدية، لذلك نحتاج أول ما نحتاجه هو جهاز كشف يشبه إلى حدما الكشف الشعاعي الذي يُعالج به المريض، لمعرفة نوع الداء، فلم يعد العنوان مجرد اصبع تشير إلى فحوى النص ، ولم يعد الكتاب يعرف من عنوانه فقط ، وللعنوان تعاريف كثيرة ، منها أنه(( المفتاح الإجرائي الذي يمكن من خلاله الولوج إلى عالم النص، وكشف أسراره )) وهو عند محمد الهادي المطوي (( نص صغير يؤدي وظائف شكلية وجمالية ودلالية تعد مدخلاً لنصٍّ كبير )) والعنوان بحسب بسام موسى قطوس هو: أول شفرة رمزية يلتقي بها القارى، فهو اوّل ما يشد انتباهه وما يجب التركيز عليه وفحصه وتحليله،بوصفه نصاً أولياً يشير،أو يخبر،أو يوصي بما سيأتي .
كما أن العنوان هو اسم الشيء ودلالاته ووصفه، والحارس الأمين الذي يقف على بوابة النص، لايشي بسر، ولايمنح إشارة، ولايعطي دلالة أو إيحاء أو تحليلاً، إلا للباحث الجاد المجتهد، الذي له القدرة على اختراق مملكة المناص الموازية للنص، وصولاً إلى العتبة العنوانية، وما يليها من محن تفسيرية وحفر وتنقيب وبحث شاق في عالم العنوان، والعنوان كما يرى سعيد علوش هو (( مقطع لغوي أقل من الجملة نصاً أو عملاً فنياً)) لكنه أحياناً يصل إلى جملتين فتشكل عبارة تامة كاملة، ومن هذه العناوين الطويلة ((أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي، قصائد، محمود درويش، فلسطين) و( ما بكى يوسف لكن الذئب بكى، قصائد، د. فوزي الطائي، العراق) و(ما سقط سهواً من ذاكرة الحلم، قصائد، عبد المنعم الأمير، العراق) و( السماء التي أمطرت ذهباً، قصص ، د. هيثم يحيى خواجة، سورية) و( وجه إلى السماء نافذة إلى الأرض، قصائد، عمر السراي، العراق) و(أنا بغيابك ماء يضنيه العطش، التماعات ، د. عمار أحمد ، العراق) و(بوصلة من أجل عبّاد الشمس، رواية، لبانة بدر، فلسطين)..الخ.
فالملاحظ هنا أن أغلب هذه العناوين هي جملة أو أكثر، فمثلاً (مابكى يوسف) هذه جملة كاملة لأن الفعل (بكى) هو فعل لازم، و(لكن الذئب بكى) هذه جملة استدراكية، والجملة الأولى والثانية تشكلان عبارة متكاملة المعنى والدلالة، وهكذا بقية العناوين الأخرى، لأن العنوان قد تطور تطوراً سريعاً وكبيراً بشكل يلائم تطور النص.
و ظهرت العنونة على أنها إشكالية حقيقية ومازال الأخذ والرد بها قائمين، وعلى الرغم من كل هذا فقد تتشكل العنونة تحت تأثير فلسفي مزدوج في (العام-الخاص) خارج المتن وداخله وقد نسلم جدلاً بأن العنونة (الداخلية) ليست سوى حاجة نفسانية يروى بها ظمأ النّاص في حالة ما أو حالات إلى أرقى تمثيل حضوري فاعل لتقديم المعنى الخاص بتحريض الحواس الملموسة وغير الملموسة واستنفارها لجلب الاهتمام إلى الغائص من النص، وبمزعوم الناص أن للعنوان تأثيراً سايكلوجياً (نفسانياً) على المتلقى بالطريقة التقليدية التي غادرها البعض دون رجعة (الكتاب يعرف من عنوانه) ولو مشينا بهذا الرأي لانتفت الحاجة لهذه الدراسة، فإذا كان عنوان الكتاب (الأنهار) فإنه يتحدث عن الأنهار وليس الصحراء مثلاً، وفي عنوانات كهذه يكون وجه المتن أو ناصيته عارياً من دون أن تكون للعنوان قدرة على إلباسه زيّ التكهن والافتراض، تسقط هنا فلسفة العنونة وتتلاشى الحاجة إلى بهرجة ناصية المتن أو تصنيع عنونة أو إدخالها في دوائر التخيل والتحريض والترميز، فيتحول العنوان في تشكيلة تقليدية رتيبة إلى فزّاعة كلام تقف بحياد سلبي على مفترق طرق المتن.
لكن العنونة لم تعد بهذه السذاجة، فقد واكبت تطورات النص وصارت تمثل وعياً كتابياً عالياً يرقى بالنص إلى فضاءات (رمزية) ملغزة خاصة، من هنا ينبغي عدم تجاوز هذه الإشكالات وبخاصة أن بعضها –العنوانات- تمتاز باعتمادها ((الرمز تحت تأثير انزياحات مشفَّرة بأنماط فيها الصورة التشبيهية والصورة الكنائية والصورة المجازية)) ولسنا هنا بصدد مناقشة مستويات الرمز بقدر تخيلنا لآليات تفعيل الرمز على أنها تخرج من مستويين، الأول (داخلي) وهو صوت (الأنا-الذات)، والثاني (خارجي) وهي مجمل الضغوط الخارجية وهي أيضاً صوت (الآنا-الآخر) وسلطته على الذات.
ولن يكون بمقدورنا الخروج ببساطة هكذا من دائرة العنونة بعد أن دخلناها بيسر وسهولة، الخروج شائك وصعب، والعملية هذه تجري من طرف المرسل وهو يؤم ببناء المرسلة بحثاً عن الاستقلال الذاتي في توليد الدلالة، وهذا ما يعنيه بول ريكور بـ((إمكانية انفتاح النص على قراءات متعددة مفتوحة، بل لانهائية))، وفي هذا المنعطف ((يتداخل حق القارئ بحق النص في نزاع يولد حركية التأويل برمتها، إذ يبدأ التأول حيث ينتهي الحوار ))ومن هنا تبرز فلسفة المرسل في بناء مرسلته/ العنوان بناء مفتوحاً وانزياحياً قادراً على التحول الدلالي الذي لا يحدث في العلامة اللغوية المباشرة، الأمر الذي يترتب عليه اختلاف تلقي العنوان والاستجابة له تبعاً لمدى الشعرية التي يحملها العنوان.
ومما لاشك فيه أن المسافة بين المتن والعنوان ليست أرضاً بكراً أو بوراً بآن واحد، أي بمعنى آخر أن هذه المسافة تقع دائماً تحت طائل الحفر والتنقيب وفق تأثير فلسفات تشكيلية عدة، بعضها يقرب المسافة بين النقطتين (العنوان والمتن) والأخر يبعد المسافة، وثالث يلغمها، ورابع يؤسيجها بالتأويلات، وهكذا إلى أخر ما تعاني منه مسألة العنونة باتجاه آفاق رمزية جديدة تخرج هذه العنونة من وظيفة الخادم أو البواب أو المؤشر بأصبع السذاجة إلى تفعيل تكميلي لآلية المتن، تلك الآلية التي فضحتها سذاجة العنوان ووشت بأسرارها بطريقة تجعل المتلقي يكتفي باستعراض العناوين دون الحاجة إلى أن يتعب توقعاته في فكِّ الأغلفة الداخلية وقراءة المسرد إذا كان كتاباً فيه عنوانات (داخلية) فرعية أو قراءة سطوره الداخلية إذا كان من النصوص المنفصلة، وهذا ما تجاوزته عتبة العنوان في الأدب وبخاصة بعد أن تطور العنوان في تمظهرات جديدة تواكب تطور النص الأدبي المعاصر.