شجرة ذابلة.. وردة عطرة
حسب الله يحيى
(1)
السيدة (نور) تحبك.
هذا أمر لا شأن لك به..
لكن كل شيء يؤكد حبها.
لا عليك من الأمر.. أنت رجل عجوز.. أقدامك تقودك إلى التراب.. أما قدماها فتقودانها إلى الحياة.
لكننا من مادة واحدة، من تراب، سواء كانت هي الشمس وأنا القمر.
أنت ستنطفئ.. وهي ستظل مشرقة.
لكنني أملك ما ينفعها ويحمي شبابها.. أملك خبرة السنوات؛ سأوفر عليها عثرات الزمن.
بل ستكدِّر خاطرها وشبابها ومستقبلها.. ستطفئ وردة عمرها وهي تتكئ على عجوز مثلك.
لكنها.. مع ذلك تحبني.. ربما هذا من طبع شبابها المفتون بحكمة الشيخوخة.. ربما تعدُّك رجلاً مثالياً في حسن تعاملك مع الآخرين.
أنا لم أميزها عن سواها، ومع ذلك اختارتني للبوح بأسرارها.. ربما لم تجد من هو جدير بالثقة وكتمان الأسرار.. وهذا لا يعني أنها تحبك، ولا يعني لك استغلال هذه الثقة واستثمارها لصالحك..
أنت رجل صهرته الحياة، وجعلت منه رجلاً حكيماَ.. فلا توظِّف الحكمة للتلاعب بعواطف هذه الشابة، لمجرد أنها تتعامل معك بشكل استثنائي عن سائر الموظفين.
أنا مديرها، وفي الوقت نفسه طوع أمرها..
المدير.. يدير العواطف بإحكام العقل، لا بغلبة الرغبات.
أنا لم أميزها عن سواها..
تكذب.. تكذب.
مرة قلت لها صباح الخير والمحبة، عندما حيَّتك بكلمتي: صباح الخير.
لم أضفت كلمة ثالثة.. اخترتها بدقة (المحبة) وأنت لم تقلها لأحد سواها!
ومرة قلت لها: اللون الوردي يليق بك .. وعندما ابتسمت، تجرأت وقلت لها: الوردي لا يرتدي إلا الورد.. أليست هذه عبارة غزل ياعجوز؟!
ومرة أخرى أوصلتها بسيارتك إلى منزلها.. وتبادلت معها الحوار والضحكات ومرة دعوتها لتناول القهوة معك، وهذا لم تفعله مع أي زميل أو زميلة يعملان معك.
أنت تستميلها وتلعب بعواطفها الشابة يارجل.
(2)
السيد (صفاء) يحبك.
هذا وهم يا امرأة.. لكن كل شيء يؤكد على حبه
رجل عجوز يجر قدميه إلى قبره.. وأنت شابة كل الطرق مشرعة أمامها، القبور للمرضى وللأقدار، وهو رجل في كامل عافيته، وليس له إشكال مع احد.. ولا أحد من الزملاء والزميلات يشكو منه.. فهل هذا سر الجاذبية فيه.
لكنك امرأة متزوجة ولك أبن وأبنة.. هذه خيانة.
وهو عجوز له زوجة وأبناء.. هذه خيانة.
الخائن.. من يخون نفسه، وأنا لا أخون.. وهو لا يخون كذلك.
أحسُّ أنه الأقرب إلى قلبي وعقلي.. كيف، ما الذي أعجبك فيه.. هدوء طبعه، حكمته، احترام الآخرين له.. واحترامه لنفسه.
هل يكفي هذا للحب.. أهذا سبب مقبول ومعقول ومنطقي ؟
أقارنه بسواه، فترجح كفته، أقارنه بزوجي، فترجح كفته كذلك.
زوجك أجمل، زوجك في كامل شبابه.
ههه.. زوجي، كان شكل الرجل وشبابه.. هي الصفات التي تبحث عنها كل امرأة!
هذا خطأ.. الخطأ يكمن في القبول السريع بالزواج.
سألته عن هذا الأمر، قال: الزواج جسر بين عالمين، فإذا لم تنتبه هذه الضفة إلى أسرار الضفة الأخرى، فإن هذا الجسر سينكسر.
أسرعت وقلت : وقد انكسر.
قال: لا تتعجلي.. بين الضفتين قارب يقوده إلى ضفة الأمان أبن وأبنة.. أليس كذلك يا (نور)؟ وإذا انكسر المجذاف .. مجذافهما معاً..؟
المجاذيف لا تنكسر، إلا بالاستخدام الخاطئ.
لكنهما يتقنان التجديف ويعرفان السباحة.. إنهما يصلحان بيني وبين زوجي في كل لحظة غضب أو مشادَّة كلامية.
لكنه.. هو، هو هذا الرجل الذي يعطي للصباح رونقه وعطره، بكلمات تطيب لها النفس.. إنه يضيف إلى خير الصباح.. محبة.. فما أسعدني، وما أسعده.
ومن قال لك أنه سعيد لسعادتك به..
نظراته، رقته، حديثه الشفاف، وطعم قهوته.
هذا ما يخيل اإليك، ما ترسمينه لنفسك، وتعمدين إلى إقناع ذاتك به.
(3)
في كل الليالي؛ يطفئ المصباح.. حتى يراها ويحتضنها ويقبلها ويقصُّ لها أجمل الحكايات.
في كل الليالي، ومنذ عرفته، راحت تفكر به.. ويسحرها أن يكون إلى جانبها يضيء عتمة الغرفة.. كان هو المصباح الوحيد الذي يضيء قلبها.
قال.. إنها مشغولة بزوج وأبن وأبنة.. قال إن للبيت أسراراً.
قالت إنه غير معني بها، فله عالمه وكتبه وامرأته وأبناؤه.. وللعائلة أسرار.
تنام وهي بانتظار الصباح، ينام وهو بانتظار الوصول إلى الدائرة بكامل صحوته.
لكنه يصل وهو لم يصحُ منها منذ ليلة الأمس.. وتصل وصباحها عطر بوصوله قبلها.. حتى يستقبلها بإشراقة ابتسامته.
ابتسامته منكسرة هذا الصباح.. ما بك ؟ تسأله
لا شيء، يقول تقرأه
رأها شاحبة.. أنت، أنت.. ما بك ؟ يسألها
لا شيء يقول.. ملامحها تبوح
وما بين القراءة والبوح.. هناك خيوط مرئية، ليس لأحد معرفتها.. سواهما
تناوله قرصاً مهدئاً.. أعرف إنها نوبة صداع
يمسك أصابعها.. كم عذب هذا الماء.. أكنت تقطرينه يا (نور)؟
تضحك.. بل هو من ذائقتك
تهمس بشرود.. زوجي، أشعل له الشموع.. فيطفئها.. زوجي كدر كمثل ماء لم تصفُ قطراته.
يهمس لنفسه.. زوجتي طيبة ونبيلة.. لكنها لا تحسُّ بطبع من تشغل باله امرأة أخرى.. تقول: الرجل مثل الحمام، لابد أن يعود إلى عشِّه، إلى قفصه.. وما درت أن من طبع الحمام.. أن يختار حريته، يقول لها.
تجيب: سيتيه، هناك من سيسجنه في قفص غريب بعد أن يقص جناحيه.. وما أن يعود له جناحاه، حتى يعود إلى بوصلة عقله، ويختار عشَّه الأول.. زوجة.. تطمئن نفسها.
لكن (نور) تقول: ليس من طبعه أن يراني، كما لو أنني كنت حجراً ساكناً في سور بيته العامر.
أكان لزاماً عليها.. أن تحبه .. قسراً؟
أكان لزاماً عليه.. على (صفاء) أن يكره امرأة حفظت ودَّه في كل السنوات العجاف، وفي كل الابتسامات الضئيلة؟
أكان عليهما، أن يفكرا بطرق مختلفة؟
(4)
في منزلها.. تنبهت إلى أن شجرة اللبلاب قد نمت سريعاً.. أكان ضوء الشمس سبباً في نموها؟
في منزله.. تنبه إلى أن شجرة الورد الجهنمي قد ازدهرت بكثافة .. أكان عدم سقايته لها نوعاً من التمرد على جفاف تربتها؟
اللبلاب بخضرته اللامعة ونشاطه الباذخ تسلَّق شباك نومها.. فيما امتد الورد الجهنمي إلى الجدار الخارجي للمنزل..
وكان ما بين النمو العاجل والازدهار البهي، عواطف سريعة تأخذ مساحة من القلب، وقدراً من الذاكرة.
سألته: هل بحت بشيء لشجرة اللبلاب؟
سألها: هل ألقيت تحية سحرية على شجرة الورد الجهنمي من بعيد؟
قالت: كانت أنفاسي قريبة منها.. من نافذة غرفة نومي.. أكانت للبلاب حواس مثلنا؟
ابتسم قائلاً: وجد الورد الجهنمي أن في قلبي وردة كما لو أنها جمرة تضيء!
كانا يتحدثان برمزين، لا يفهمهما سواهما..
اخضرت كل الرموز، باتت واضحة وصريحة.. تنفست حقائقها المشتركة.
لا عليك من شيخوخته.. الشيخوخة حكمة ووقار.
لا عليك من شبابها.. الشباب حيوية وانطلاق.
وما بين الشيخوخة والشباب؛ صارت الأحلام الوردية ترسم عوالمها في نفسيهما، حتى بات صداها يملأ أفق العالم كله.
مضى الزمان، وتغير المكان.. صار لكل منهما مناخه، ولكل منهما عوالمه.
أما الزمن؛ فقد أحاله إلى التقاعد من وظيفته.. لكنه رفض أن يقال له (متقاعد) ذلك أن الكلمة تعني بالنسبة إليه (مت.. قاعد) وهو لا يريد أن يموت لا واقفاً ولا قاعداً، فالحياة في مخيلته .. وردية عطرة.
أما المكان، فقد اجتاز قدره منزوياً في دائرة بعيدة عن ذاك المكان وذاك الزمان.
اتسع المكان، وصارت المسافات تتسع، فيما وجد الزمان أيامه وقد ذبلت، وبهاء ساعاته وقد أبطأت مسار عقاربها.
لم يعد الهاتف يكفي، ولم تعد الأيام تكتفي بالذكرى.
وفي عالمه، أن حباً بني على الصدق؛ لا يمكن أن يأفل، ولا أن يصاب بالصدأ.
الأفول من طبع الجفاء، والصدأ من طبع زمن مّر..
ولم يكن هناك جفاء ولا صدأ بينهما..
(5)
كان يزورها في أوقات متباعدة.. وكانت تقول : ربما شغلته الحياة، وأثقلته البطالة ووطأة الكسل واللامبالاة.. ربما استيقظ فيه حسُّ من التأنيب في حب يتيم، مقطوع الجذور.
وعندما كان يصطفي نفسه تحت ظل شجرة الورد الجهنمي، كان يخاطب نفسه: الغياب آفة تنخر في الزمن.. أكان هذا الغياب.. قطيعة بينهما؟ لا شيء يدل على هذه الظنون كلها.
زارها.. احتفت به، وجد أن جدران الدائرة تزهو.. وأن الأوراق في أصابعها.. أوراق لبلاب دائم الخضرة.
احتل الصمت، بعض الوقت.. ولم يكن للصمت وقت بينهما.
فجأة كسرت الصمت قالت: لا بد لعلاقتنا أن تنتهي.. لا أجد في نفسي القدرة على التفكير في هذه العلاقة.. كانت الكلمات تأتي إلى صفاء أذنيه باندفاع وقسوة، كما لو أنها حجارة ترمى في وجهه.
عجز عن الإجابة، اقتنع قناعة كاملة بأنها قد اتخذت قرارها وحسمت الاأمور ولم تعد هناك ضرورة لأي كلمة يمكن النطق بها.
لم يناقشها، لم يسألها إن كان قد أخطأ في حقها، إن كانت قد سمعت ما يسيء إليها، إن كانت مخطئة في علاقتها به كل هذا الزمن.. إن كانت قد أدركت بشيخوخته وانطفائها، فيما هي في عزِّ شبابها وألق حضورها..
المفاجأة.. كتمت صوته، وجعلت حنجرته تجفُّ، وفمه ملصق الشفتين.
مع السلامة .. قالها على عجل، وترك كرسياً كان يعتقد أنه يرحب به، مشى أحس بقدميه لا تسعفانه على المشي، إلا أنه تعامل معهما بصرامة وألزمهما على حمله.
كان الطريق مليئاً بالعثرات، وكان الذّل والمهانة تأخذ بذهنه.. كان قلبه ينبض بشكل غريب.. أفكاره مضطربة وأنفاسه ثقيلة.. وخطواته ضاعت من أوامره، وباتت تقوده إلى حيث تشاء، لا حيث يشاء.
غيوم سوداء ملأت عينيه من دون أن تمطر دمعة، كأن مطر الدموع قد اكتفى بالغيوم، ترى.. أكانت الغيوم مخادعة، أكان كل ما كان مجرد حلم.. مجرد نسمة مرت، ثم هربت.. أو ماتت، أو غادرت هذا العالم الذي بات عصياً على الفرح؟
(6)
يومان من الجفاف مرّا، كما لو أن الزمن كان مكبّلاً فيهما بكرات من الصلب.. يومان لم يدرك أنهما في خارطة الوقت.
ولم تكن السلامة تلقي بظلالها على حياتها..
في هذه المرارة الثقيلة على أنفاسها.. جاءت مرارة أخرى، حطمت آخر امرأة موجودة فيها، آخر كائن يمكن أن يفكر بالحياة.. جاءها نبأ وفاة والدها العليل بذاك المرض.. المرض الذي ينخر في الكائن من دون أن يكون المرء شجاعاً ليقول إسمه.
فجأة وجدت نفسها أمام امتحان وتمرد واضطراب، ثم قرار.. رّن هاتفه قبل منتصف الليل بقليل، ولم يكن من طبعه البقاء ساهراً ولا من طبع أصدقائه اأو معارفه مهاتفته في هذا الوقت.
(صفاء).. والدي مات.. لم تنتظر حتى كلمة ترحيب (ألو..) لا وقت للانتظار ثلاث كلمات، كانت أشبه بثلاث صفعات على وجهه.
لم يعرف ما يقول، هل يرثيها ويكتفي بالرحمة على والدها، هل يتوجه إليها أين هي الآن، الأمر صعب.. سيكون حضوره غريباً عجيباً، فما علاقته بالفقيد، وما علاقة الفقيد به ؟!
واساها.. بكى لبكائها.. أحس أن فقدان الأب.. ظلام، فيما كان أحساس الإنسان الذي فيه.. يرتاح، يحسُّ باستعادة أنفاسه بأن حباً كان.. ودعه جفاء عاجل ومفاجئ، وأعاده موت، لا يريد أن يسكن التراب ويدفن.. وما كان ، كان ..
انتابه شعور متناقض.. بين ألم موجع لموت، طلق علماء الطب علاجه، وحب خذله الوقت وكسر ألقه.. ليعود كما الضوء حين ينطفئ ثم يعود.. يعود مثل عيد، أبى أن يغادر موعده.
فيما كانت (نور) تجد نفسها في سكينة وراحة، وهي تتوجه بالخبر إليه.. إليه، قبل كل الأقارب، قبل أن يبرد الموت.. قبل أن يكون الموت قطيعة مع الحياة.
كانت غير نادمة على ندائها الهاتفي، كانت غير تلك المرأة التي تمردت على قلبها.. أحست أنها منسجمة ومتفقة وعلى وفاق تام بينها وبين عقلها وقلبها..
14/2/2024