سلام مكي
قراءة متأخرة لمجموعة قصصيَّة مهمة، صدرت قبل أكثر من عقد من الزمن، لكنها ما زالت تنبض لليوم، ما زالت العوالم التي نسجتها تلك المجموعة، تنبض بالحياة. المجموعة، تتكون من مجموعة من العوالم، كل عالم، يشكل كتلة سرديَّة، في ظاهرها مستقلة، لكنها تصب جميعاً في نهر كبير. نزار عبد الستار، الكاتب، معتاد على التفاصيل، التي ستكون متوناً لحكايات نسمعها يومياً، لكنها تمر مرور العابرين. لكن معه، تتحول الى لحظات مركزية، مؤثرة في النسق العام للأحداث. هو يستمتع بخلق أنماط سردية، تدهش القارئ، وتخلق موجات مائيّة، ترتطم بجدران الذهن.
المجموعة، عبارة عن حكاية وطن، ألقيت بألسن مختلفة، وبأماكن متعددة، كل مكان يعيش عالمه الخاص الذي صنعه بنفسه، هرباً من العالم الكبير الذي يعيش فيه عنوة. تلك العوالم، رغم أنّها مخلوقة من قبل أبطالها، إلّا أنّها ضمّت أضدادا، قلما يجتمعون في مكان واحد، فنزار عبد الستار، حاول بث الروح في صراع قديم، بين نسقين مختلفين، لا يجتمعان في مكان واحد إلا ونشب الخلاف الممزوج بالدم بينهما. ولعل الغلاف الذي اختاره نزار بعناية وقصدية، يبرز الرسالة التي أراد تمريرها عبر هذه الرواية. فباللون الأحمر، كتب البيجامة الحمراء، وباللون الأبيض، كتب الدانتيلا البيضاء، وكلا اللونين، يرمزان الى قضية معينة.
البيجامة الحمراء، مقابل الدانتيلا البيضاء. هما قطعتا قماش، لكن الروائي، جعلهما رمزين لفكرين متصارعين، يمثلان فكرتين، الأولى تمثل السلطة الدينية، وما تطلقه من قصص وحكايات، تحاول من خلالها إخضاع أتباعها لفكرها، والثانية، فكرة مغمورة، مثّلها رجل بسيط، لا يعرفه أحد. الفكرة تتلخص في أن رجلا بسيطا يدعى أسّو بنوني ينجو من الموت سبع مرات بأعجوبة، وكثيراً ما كان يخرج من بين ركام الجثث ورائحة الموت. "بقيَ مدة شهر ينتظر، بكآبة مفرطة، أن يصحح ملاك الموت ساعة.
"كان ما يحدث مع الرجل، معجزة، بكل المقاييس، إذ كان يحمل برفقة الجثث المهروسة الى أقرب مستشفى وهو في غيبوبة النار والدمار، وشبيه بقطعة لحم مدخن، بلا حس ولا نفس، ومصبوغا بخثرة الدم، وتفوح منه رائحة السي فور وما إن تلقى عليه بطانية الموتى، حتى تمسه الرجفة لينهض بعدها بصيحة الحياة، وهو بكامل جسده.." المشهد الذي تكرر أكثر من مرة، دعا مجلس الملافنة، وهو مجلس يضم رجال دين مسيحيين، الى النظر بقضية هذا الرجل، وبعد تفتيشه عثر في محفظة نقوده على صورة بحجم الطابع للبطريرك الكاردينال مار أغناطيوس جبرائيل الأول تبوني. عندها فرح الجميع ظنا منهم بأن سبب الخلاص من الموت هو الصورة! لكن أسّو وهو يجمع محتويات محفظته اكتشف قطعة صغيرة منسية من بيجامة حمراء لليلي كان قد قصها قبل سنة، كي يشتري ما يماثل قماشها يعمله كيس وسادة حتى يكثر أحلام الحب!
هنا، يخلق الكاتب صراعا بين نسقين: الأول أبيض، وهو رداء البابا/ رجل الدين. والثاني: الأحمر، ويمثل الحب، بكل تجلياته، ويمثله ثوب ليلي! قطعة الثوب الأحمر التي تمثل العصر الحديث، كما كان يرى القس زكّو، الذي كان مدافعا عن الفكرة. الراوي، انتصر للأحمر الذي تسبب بمحنة للبابا ومعجزته! فالصراع ما بين أبيض البابا وأحمر الفتاة/ الحداثة، انتهى لصالح الأخيرة.
أما بياتريس الوحيدة، فهي عالم يختلف عن العالم الذي قبله، حيث سلّط فيه الضوء على قضية إنسانية، وهي قضية الأرمن، الذين هجّروا من بغداد، إبان الأحداث الطائفية التي شهدتها المدينة: سيدة بياتريس.. لم يبقَ في بغداد من الأرمن سوى أنا وأنت وابنتك ميري.. علينا أن نأكل جيدا كي لا ننقرض.. إن سكان العمارة قد لا يعرفون أن بغداد بعد مذبحة كنيسة سيدة النجاة، لم يبقَ فيها سوى ثلاثة من الأرمن.. في هذا العالم الواقعي الممزوج بشيء من الافتراضية والخيال، يوثّق نزار عبد الستار، مرحلة تاريخية مرت بها مدينة بغداد، عندما شهدت عملية قتل وحشي للمسيحيين، في كنيسة سيدة النجاة، التي تم تفجيرها وقتل العشرات ممن كانوا يؤدون طقوسهم الدينية فيها، وما تلا الانفجار من هجرة جماعية للأرمن، خوفا على حياتهم. إن هذا التوثيق، مهم وضروري، حيث سيكون وثيقة تاريخية، غير قابلة للتزييف والتأويل، ذلك أن الرواية، وإن كانت نتاج مخيال كاتبها، إلا أنها كثيرا ما تتحول الى مدونة وشاهدة على مرحلة مهمة، مر بها البلد، خصوصاً أنَّ الراوي، يكتب بصدق، وعاطفة مجردة من كل شيء إلا الإنسانية.
العالم التالي في المجموعة، هو "ولد وبنت" وفيه يوثق الراوي، حداثا مهما، شهدته بغداد، وهي التظاهرات التي اندلعت عام 2011، حيث يتحدث هذا العالم، عن ولد وبنت، يحاولان التظاهر قرب ساحة التحرير، لشأن خاص بهما، فيصطدمان برجل، يحاول ابتزازهما، عبر شراء لوازم التظاهر، من لافتات وغيرها. فيعرض عليهما لافتات تخص إسرائيل، وأخرى تخص الأحزاب ووو.. عند الولوج في هذا العالم، نجد وكأن الكاتب، يتنبَّأ بتظاهرات عام 2019، رغم أن بغداد كما قلنا شهدت تظاهرات قبل كتابة الرواية، لكن نزار عبد الستار، كأنه كتب عن تظاهرات تشرين في عام 2013! وهذا العالم، كذلك يعد وثيقة تاريخيَّة، تعبر عن موقف المثقف من حركة شعبية، قام بها مجموعة من المتظاهرين، لهم مطالب معينة، إلا أن تلك الحركة، سرعان ما انحرفت عن أهدافها، وتحولت الى ميدان للارتزاق على حساب المواطن والوطن! تماما كما حدث في تشرين! لذلك: يصلح هذا العالم لوصف تظاهرات 2011 وتظاهرات تشرين!
أما العالم "كورنيش" فهو عالم عجيب، عالم يختلط فيه الحب، مع الحرب، مع الجنس، مع الرغبة في الحياة، مع اللا مبالاة، مع الصورة النمطية التي كانت تشهدها بغداد في ذلك الوقت. في هذا العالم، يجلس البطل الذي يعمل حارسا لشخصية سياسية معينة، مع حبيبته على الكورنيش، حيث يعبث بجسدها، من دون رغبة حقيقية. وبينما هو كذلك، يسمع صوت مروحية أمريكية كانت تهبط على الضفة الأخرى من النهر، كما سمع بعد لحظات انفجارا طويل الصدى، أفزع طيور النهر الثقيلة، فقال لها: إنها عبوة ناسفة!!
إن هذا الموقف، يشير الى حقيقة أن العراقيين، في تلك الفترة، كانوا يتعاملون مع الانفجار، وكأنه حدث طبيعي، فهو مثل كل حدث عابر، كما لو أن حادث سيارة، أو حادث غرق، وأي حادث يمكن أن يقع في أي مكان أو زمان، كذلك الانفجار، هو حدث طبيعي، لا ينبغي أن نعيره اهتماما أكثر من اللازم!
العالم الأخير، هو العالم الذي بث الكاتب فيه الأمل. فهو يتحدث عن حبيبين/ زوجين، يعيشان لحظة نادرة، هي لحظة ولادة أول طفل لهما. الزوج/ الحبيب، كأنه يعيش أول لحظة له مع زوجته/ حبيبته، وذلك في المستشفى، حيث تتهيأ زوجته للولادة.
نزار عبد الستار، في هذا العالم، كأنه يقول: إن الأمل سوف يولد في النهاية، حتى أنه سمى المولودة "ملاك" فهي ولدت بعد عناء، ومسيرة طويلة، وقاسية. ولدت ملاك، لتوقد شمعة في ظلام الواقع!