أحمد عساف
افتتح في المركز الوطني للفنون البصرية في العاصمة دمشق المعرض الفردي الأحدث للفنان التشكيلي صالح الخضر، بحضور عدد كبير من المتلقين والفنانين والإعلاميين وأساتذة الجامعة.
والخضر خريج كلية الفنون الجميلة قسم الغرافيك جامعة دمشق، سبق له أن أقام معارض فردية عدة في روسيا والامارات والبحرين وسورية.
وقد ضم المعرض 23 لوحة بمقاسات كبيرة تراوحت بين ال 3 أمتار ونصف والمترين نفذت جميعها على القماش.
جرت العادة أن يكون هناك عنوان رئيس لأي معرض شخصي. فلماذا لم يضع الخضر لمعرض هذا أي عنوان؟ فأجاب: أحببت أن أترك للمتلقي، وللذائقة الجمعية أن تختار هي عنوانا للمعرض، وبالتالي فالتجريد لا يحتاج لوضع عناوين له، وكما تشاهد المعرض هنا هو تجريدي. أنا اقدم نصاً لونياً واتمنى من المتلقي أن يجد لذاته نصاً لغوياً حكائياً أدبياً.
في المعرض سنجد ذواتنا تتنقل بكثير من التأمل والشغف من لوحة إلى أخرى وبعميق من الرؤى والرؤيا، حيث تمكنت تلك اللوحات من فرض سطوة أفكارها وأبعادها اللونية الجمالية، وأن تقودنا إلى التماهي معها وصولا إلى لوحة النهاية أو الوداع.
الزائر للمعرض يكتشف عوالم فنية آسرة تكاد تدعونا للاتحام معها، أو التسّمر أمام قدسية حكايتها الممزوجة بدهشة التساؤل عن ذواتنا الجريحة، في زمن لا هو يتعرف إلينا، ولا نحن نوغل الإبحار في كنه معانيه والتفافه علينا.
لوحات هذا المعرض تطرح اسئلة عديدة عن سر وجود الذات البشرية في دياجير الذهاب لنواة البشرية الأولى.. ومن ثم ذهابه إلى أكثر من ذلك حين يرى أن اللوحة هي القادرة للمضي أكثر في سبر أغوار النفس البشرية، والاتجاه للرد على اسئلة تقلق الإنسان وتغض مضجعه، اسئلة يطرحها العقل الباطن لتظهر كأحلام عبر عدة ألوان وصور وأشكال.
المعرض الذي حمل ميزة جديدة وخصوصية لم يألفها متابع أعمال الفنان صالح الخضر في معارضه السابقة، لا في شدة خصوصيتها ولا حتى ألوانها، وحتى في أحجامها الكبيرة. ربما اختياره للتجريد ساعده على النجاة من سائد ومألوف بات يتكرر في كثير من معارض شهدتها صالات الفن السورية في الاعوام الأخيرة، حيث تكررت اللوحات التي تدور في فلك الحرب وتبعات تشابهت كثيرا موضوعاتها وألوانها، الأمر هنا
مختلف تماماً نع الخضر ولوحاته.
وما يلفت الانتباه أكثر هو أن الموضوعات التي تعالجها اللوحات بكل مداليلها ورموزها لم نجد فيها تلك الألوان الحارة أو الحادة كالأحمر بكل تجلياته، أو ما يقابله من ألوان أخرى، وهو ملمحاً فنيا جديداً، جعل من هذا المعرض علامة فارقة في المشهدية الحداثوية التشكيلية السورية.
وأن كنت أرى أن البعض منها كان بحاجة للقليل من تلك الألوان. لكن للفنان وجهة نظره ورؤيته الخاصة.. لقد نفذ أفكار اللوحات ومقولاتها بألوان هادئة وباردة ونجح في خلق طقوس وكرنفالات لونية أثرت المشهد البصري، وحققت نتائج ايجابية على ملمس اللوحة وسطحها الذي مال إلى نتوءات وأخاديد حفرت عميقا في جوهر المعنى، وأضافت أبعاداً جمالية غزيرة في تكور وبروز المعاني.
وقد بدا واضحا للمتلقي استخدام الفنان سماكات لونية بارزة على سطح اللوحة شكلت أبعاداً جمالية ومعرفية على سطحها وملمسها، وبالتالي لم تكن هذه الألوان ألوانا زيتية أو أكرليك أو غواش.. هي ألوان صنعها الفنان بيديه، كما قال: ليس سراً حين أقول إنها ألوان صنعتها بيدي من أوراق شبه محروقة ويابسة عجنتها بيدي وأضفت إليها ألوانا ترابية، وبعضا من لحاء الأشجار وبقايا الحرائق، ومن بيئتي الريفية البسيطة.
يشعر متلقي إبداع الخضر أنه أضاف لألوانه الكثير من ذاكرة الروح وعذاباتها وقهرها وحيرتها، وفي بعض الأحيان تطلعاتها لشفق أمل يخدش عتمة الليل لينبثق كنبراس خارجا من الرماد نحو البياض.
لاحظنا في كثير من اللوحات بروز اللون الرمادي المتماهي مع البياض، عبر خطوط تجريدية تبدو وكأنها منسلة من فضاء المختبر الفني للفنان، وهو اشتغال صعب بحاجة لفطنة وتمرس وذكاء حاد، لينجح العمل الفني ويصل بكل صدق إلى المتلقي.
لقد وجدنا أيضاً ألق الكرافيك حين ينضج في تنور القلب لينطلق نحو شعاب الروح ناثرا كل هذا البهاء اللوني الموظف لمصلحة مقولة العمل الفني وفكرته. قبل أن يبرز كحس جمالي على حساب بنية العمل التي تعتبر العمود الفقري لأي عمل يسعى للخلود في الذاكرة
والروح.