ابراهيم داود الجنابي
يتحاشى الكثير من النقاد الدخول في منعطفات نصوص تتناول قضية الموت التي تعد الشاغل الأهم في الحياة والسبب يعود إلى عملية ارتباط الموضوع بالأمور الدينية التي تحيلك لتشابك كبير وتعدد للآراء وكثرة التأويلات وتشظي الدلالات نتيجة كثرة الأديان والمذاهب والمعتقدات والمسارب. في حين أن أكثر الدراسات التي أخذت من موضوعة الموت مادتها كانت بإحالات فلسفية مبتعدة عن ما أشرنا اليه. وبالرغم من أن الكثير من الشعراء تناولوا هذه الظاهرة كالسياب ودرويش وغيرهم إلا أن الواعز الأكثر حضورا كان الخوف من الموت والمرض واِرهاصات مختلفة من شاعر
لآخر.
ولعل ما كتبه السياب "الموت أهون من خطية" دلالة واضحة على الوضع النفسي والاجتماعي الذي يدعو للكتابة في هذا الفضاء فالخطاب الشعري الذي يأتي محشوا بمفردة الموت أو ما يرادفها "الجثة" هو مؤشر يدعو لتبني قراءة المجموعة الشعرية للشاعر انمار مردان البياتي "كلما قلت.. قالت إلى أين؟" الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق فكانت في 23 نصا تكاد لا تخلو من مفردة "الجثة" والتي دائما تكون برفقة الثنائية الجدلية "الموت والحياة". لكن أيضا يمكن القول بأن جثة مردان هي ليست تقليدية تعني جسد الإنسان بعد مفارقته للحياة وإنما هي جثة عنادية تحاول أن تشاكس الواقع الحياتي وأن تنتصر في كل معركة تخوضها عبر ممكنات وأدوات وأسلحة مقاومة لكل أنواع تعرجات الحياة ومساراتها العرجاء. فهذا الفيض العفوي من المشاعر والأحاسيس يعرف لنا الموت تعريفا آخر فهو يحلينا أن الذل والفقر وتقييد الحرية وغيره هو موت آخر كما ذكرنا في المقدمة بأنه ليس الموت التقليدي ففي نصه المعنون "رسالة الى الحاكم " نقرا: "أطلب من الحاكم/ أن يلتقط صورة لجثتي/ وبقرار جمهوري/ يعلقها في الطرق والأزقة والحانات/ ويطبعها كمنشور سري/ ولا يعلق صورته في الشارع ويزاحم جثتي".
هذه هي الجثة الجسد التي تحاول أن تمارس الحياة بحرية مفقودة هي ترجمة باطنية ومضمرة تنفلق حين يرتفع ازيز مرجل الحياة ومحاولة للثورة على واقع مزري يعيشه الجمهور أما الشاعر فيطلب من الحاكم أن "لا يكون شاعرا.. خوفا على القصيدة من التلوث والدعارة" فالمعطيات والدلالات التي تبثها تلك المفردة تبتعد وتتواءم مع ارهاصات الثنائية الموت/ الحياة لكنها تنحاز للحياة أكثر فهي جثة مقاومة تستمد قوتها من التشبث بحبال الحياة.
الشعرية التي تقوم على الحداثة لم تعد تنظر إلى الشعر على أنه مداعبة ومناسبات وعواطف بل باتت استشرافا باطنيا يحاكي ممكنات الحياة بقدم عارية وحدس متقد فهو كشف وإعادة انتاج لمجريات مراحل يمر بها الشاعر عبر منظومة جادة تجعل من النص بوظيفة لا تعتمد المصالحة بل خلخلة الانساق بين الإنسان والكون.
إذا ما أردنا أن نقول لا بد للشاعر والأديب بشكل أشمل أن يكون ملما بتراث يحفل بالكثير من مقومات الثقافة والإبداع وهنا نشير إلى التراث بكليته وليس الأمر تخصصيا بالأدب فالكاتب يعكس هذه العلاقة المعرفية أو يستدعي من الذاكرة الحافظة أو أحيانا من القراءة الآنية بعض ما يوظفه في نصوصه وخاصة من القرآن الكريم بتصرف أو نقل حرفي فالشاعر موضوع القراءة استخدم توظيفه للنص الديني أو ربما تسلل إلى نصه بسبب تشبعه بمفاهيم غالبا ما تتردد بين أفواه الناس فنقرأ في نصه "انطق وللبقية الحريق": "أنتظر الحريق بأي وسيلة/ فتجهز القيامة على سباياها بمخاض عسير/ وأنا عنيد بهدوئي/ فالملطخون بنار غرامهم/ أحياء عند جرحهم يلمعون".
وتأتي تباعا هذه التوظيفات لتتوزع على مساحات كثيرة من النصوص "الحائط الذي علقت عليه قلبي لم يستورد/ إلا ضحكات من أفواه الراسخين في العلم". أما في النص الذي حمل عنوان المجموعة فيقول: "عسى أن تنجب لي الشمس/ أعني هي/ طفلا بلا شائبة/ شرط أن يكون شاعرا ومبشرا ونذيرا".
إن عملية استدعاء النص القراني من أجل أن يكون حراكا آخر يضيف للنص من زوادته المعرفية والإنسانية لكن هذا الاستدعاء جاء بتلاعب في حيثيات النص من تسويق الفكرة المراد لها أن تأتي مع صيرورة النص. ولكي يكون هذا التوظيف إضافة فاعلة في ثكنات النص وكذلك يمكن القول بأن النص القرآني هو بحد ذاته خطابا نثريا وشعريا يذوب في الكثير من أدوات الكتابة الحديثة فهذه الاستعارة والتلاعب بمفرداتها تعد عملية خلق جديد وتبني فكرة المزج بين الأساطير والنصوص المرادفة لها بوصف هذه التضمينات على أنها الغاما مزروعة داخل النص يثير تواجدها الغازا تحيلك إلى المراوغة والمجادلة فهي عملية محاورة بين الذات الشاعرة والكتابة.
أما مجموعة النصوص القصيرة التي كان عنوانها "اوشك أن انادي لم" الغالب فيها قد استهل بـ (لم) بكسر اللام وفتح الميم وهي تساؤلات للتعليل كما يقول "لم لا أقول لك أني ضياع قديم/ لم يتجرأ أحد أن يكتبه إلى الآن/ والرماد الذي وصل غرفتي متاخرا/ على هيئة شيب/ أراد أن أكون جثته/ لكني بغرابة عالية/ قررت أن أكون جثة نهارك الجديد". إذا نحن ازاء حراك لغوي وانزياح كبير اضافة إلى عملية تطويع الجسد الجثة بإيجاز خبري تارة وإيجاز مشهدي بصري تارة أخرى ليجعل من جثتي الحبيبين في لقاء دائم ليكون للجسد ايماءة تشير إلى ايروسية مكتومة تتحدى الواقع وتتمرد بفعل شعري متخم
بالجمال.