الشاعر ينطفئ

ثقافة 2024/07/28
...

  ريسان الخزعلي

(1)
أن نخط  فشلا آخر في هذا
السفر المسحور لأنا نهيم مع
الشمس في الكلمات المطفأة،
ولأنا الفرسان الذين نطاول
ظلالنا.
أيُّها الموت: الهواء لا يحمل
الأعناق، وأنت الكنز الذي
يوصلنا إلى الخير.*
هذا هو المُفتتح التوضيحي الذي يعكس رؤية الشاعر الراحل محمد حسين المطلبي – محمد شمسي لاحقاً، حول الوجود والتفاعل الشعري مع الوجود في مجموعته الأولى "طوفان الشمس في الكلمات - 1968". والشاعر كتب الشعر في المناخ الستيني العاصف و "موجته الصاخبة" كما تُشير تواريخ قصائد المجموعة "1965– 1969"، كما أصدر مجموعة ثانية في السبعينيات "دم الشجر الساحلي" كرَّرَ فيها بعض قصائد مجموعته الأولى، إذ وجد فيها ما يتعالق مع فكرة  "دم الشجر الساحلي".
غادر الشاعر كتابة الشعر، وانشغل بكتابة روايات للفتيان بعد رحلته/ المغامَرَة- بواسطة درّاجة بخاريّة- إلى أفريقيا التي حفرت في مدركاته حكايات غريبة شاهدها عن قرب، وربما كانت السبب في مغادرته الشعر. وغرابة الحكايات تلك ضمّها كتاباه "ألف ميل بين الغابات، وبونيتا - أرض ساخنة". و"بونيتا" هي الفتاة التي عاد بها إلى العراق على الدرّاجة ذاتها. وقد قال عنه وعن غرابة تلك الرحلة الشاعر عبد الوهاب البياتي: "أستطيع أن أقول إن محمد شمسي أوّل مؤلِف وشاعر عربي ذهب إلى هناك ورأى وسمع وأحس وأحب وعاد لنا بمثل هذا السِفر النفيس.
(2)
الشعر في "طوفان الشمس في الكلمات" يحمل الكثير من  خصائص الشعر الستيني في العراق: البناء، الصورة، الصياغات اللغوية، الإيحاء الرمزي، المحنة الوجودية، الإيقاع المُتشكّل من موسيقى العروض، التقفية الداخلية والخارجية، تأمّل اللحظة الحياتيّة.. إلخ من المشتركات. إلّا أن الموت وفكرة الموت - سواء كان ذلك في مفتتحه التوضيحي أو في قصائده- والتشاغل بهما، كانا الهاجس الضاغط على صحوة وعي الشاعر وربما لاوعيه أيضاً. ورغم وجودهما في الكثير من شعر مجايليه، إلّا أنهما لم يكونا بمثل هذه السعة كما في شعره، وتكاد لا تخلو قصيدة منهما. ولا أعرف إن كان الشاعر قد عرف "بالمرض" الذي أصابه في دمه وهو طالب في المتوسطة، ذلك المرض الذي أخفاه عنه مالك المطلبي بعد أن أشعره الطبيب به على انفراد، كما جاء في مقالة المطلبي بعد رحيل الشاعر.
إنَّ قصيدة "الشاعر ينطفئ" توحي بما هو طيّع على الاستنتاج: "عدنا من أقبية الموت/ نستجدي من قاتلنا الألفة/ كنّا نسأله سيفه/ لا تُلصق فوق الجسد الدامي الصفعات/ إن الجسد المملوء دماً قد مات/ ماذا تملك يا ظفر أبي، يا شاعر غير الكلمات؟/ قلّها وتخطَّ الكذب الراقد في وجهك، والصمت/ قلّها واندسَّ - مغترباً في الموت-/ جسدي يخمدُ قربي، يفلتُ سيفٌ من شفتي/ يرتدُّ إلى قلبي/ لا أملك غير الكلمات/ إن الجسد المصبوغ دماً قد مات".
وفي قصيدة "دوار الرؤيا" يكون التأكيد، تأكيد الإحساس بمواجهة الموت، أكثر وضوحاً وإشارة: "إنّي أرى دماء هذا الشاعر الجوّال/ تسيلُ كالقصائد الطوال/ وكان إذ أدبرت الشمس وحطّ / القمر الزائف في البيوت/ أقسم أن يموت".
وفي موقفٍ شعري آخر، قصيدة "إلى الأطفال الفقراء" يرى الشاعر محنتهُ الوجودية في مواجهة الموت، بأنّه "أيوب"، صبراً، وامتثالاً لليقين: "إنّي لا أملكُ إلّا رأسي/ استأجرُه/ يدفعُ عنّي الأجر الفقراء/ فإذا ما ضاق بأيوب الداء/ دحرج هذا الرأس على جبل البلّور/ يومٌ في الظلمة، عشرة أيام في النور".
ولكي يتضامن مع فكرة الموت، يرى أنَّ موته سيكون سهلاً أمام موت عمر بن الليث القرمطي الذي صُلب في بغداد سنة 282 هجرية: "ياليثُ إن عدّت فما بغداد خيمة المسافر/ وأنتَ إن عدّت  فدع متاعك الزائد للرفاق/ وناد في الأسواق: لا تبرئوا ذمّةَ هذا الجسد الجوّال/ إن لم يَمُت ممزّق الأوصال/ إن تفقد السيف فدع لسانكَ القوّال/ يمشي على الرقاب/ فإن فقدته، فليس للقلب أكفٌّ كي يدقَّ باب".
إنَّ الموت وفكرة الموت، هما المهيمنان على صحوة وعي الشاعر في مجموعة "طوفان الشمس في الكلمات" وهو في العشرينات من العمر!، مما جعل قصائدها -وإن تماثلت فنيّاً مع الكثير من المجاميع التي صدرت في الستينيات- تتزاحم في مناخ واحدٍ لا تقوى على الخروج منه لما هو أكثر هواء شعريّاً، عدا بعض القصائد: الملحُ في الأعماق، إلى محمود درويش، حوار مع جندي شطرنج، حكايتان من السفر القديم، طرود.. رحل الشاعر، وما زال طوفان الشمس في الكلمات مستمراً، يبحث عن المستقر الأوسع.