ألهاكم التكاثر

العراق 2022/06/26
...

أحمد عبد الحسين
 
بِشكل متسارع للغاية تنسحب المشكلات الصغرى والخلافات البينيّة من المشهد العالمي وتحلّ محلها معضلات ثقال، أزمات كوكبية عظيمة كالمجاعة والتصحّر وشحّ المياه والاحتباس الحراري وتغيّر المناخ وسواها من المآزق التي تتهدّد الأرض كلّها. وهي أزمات تبدو بلا حلول ممكنة إلى الحدّ الذي يقف الإنسان عاجزاً أمامها حتى عن صياغة سؤال حولها فضلاً عن إعطاء أجوبة. لمْ يسألْ أحد حتى الآن: ما العمل؟
العجز عن السؤال مردّه مقولة ماركس العميقة "الإنسانية لا تطرح على نفسها إلا الأسئلة التي يمكن الإجابة عنها"، وبما أن الإجابة غير متاحة بل غير مفكّر بها حتى الآن فلن يأتي سؤال عن إنقاذ الأرض التي يبدو أنها تحتضر.
لم تتهيأ البشرية لسؤال كهذا، شغلتنا الهويّة عن الجوهر. لطالما كان الإنسان بارعاً في خلق هويّات دينية وقومية وطائفية والذبّ عنها بما يملك، إلى حدّ أن الهويّة "الدينية خصوصاً" كانت ولم تزلْ الذريعة الكبرى لكل قتل ذريع.
المعضلات الكوكبية رسائل تامّة الدلالة إلى أننا استهلكنا الأرض وأفسدناها لكننا لا نملك إلا ما اعتدنا عليها من فهم للعالم يقسمنا إلى مؤمنين وملحدين، إسلاميين وعلمانيين، عرب وأعاجم، بيضٍ وسود، شيعة وسنّة. هذه الحدود هي منتهى ما يمكن أن تصل إليه أفهامنا التي انشغلت منذ الكهف بالهويّة والتكاثر.
الهويّات زائفة دائماً ومخزية، لكنها الآن أشدّ زيفاً وإضحاكاً أمام مشهد مرض الكوكب الذي نحيا عليه. والناس، المليارات السبعة من الناس أشبه ببحارةٍ على سفينة موشكة على الغرق يتذابحون حول أيّهم أكثر وسامة.
حين كتب فوكو أن الوجود كامل والإنسان طارئ لأنه هو من أدخل النقص والفساد عليه، لم يكن يستعيد الآية "ظهر الفسادُ في البرّ والبحر بما كسبتْ أيدي الناس"، لكنّ المقولتين عندي متطابقتان.
الإنسانُ صغّر نفسه كثيراً، مرّغ كرامته في الوحل وألقى بجوهره في المزبلة حين آمن بهوياته المقدّسة السامّة وصدّقها وبنى بنيانه كلّه عليها. وها هو عاجز حتى عن صياغة سؤال عن الحال التي هو فيها.