في رواية {تغريبة القافر} لزهران القاسمي

ثقافة 2023/05/28
...

  د. سلمان كاصد 

   حين يتداخل الشعر والقص تبدو العمليَّة الإبداعيَّة أكثر تشويقاً، بالرغم أن ما بين هذين الفنين من فوارق كثيرة على الصعد جميعها، وبخاصة طبيعة الأنساق المتحكمة في هذين الجنسين الأدبيين.   وبفرضيّة أننا نعرف سمات الشعر وقد خبرنا خصائص الرواية والقصة، ولكن قد نجد تعالقاً فيما بينهما على مستوى الابتكار وبهذا يعد إنجازاً مقبولا، وعليه فإن مستويات التشابه بين الفنين يمكن توصيفها بالدلالة أولا وتعدد الأنساق ثانيا وبحالات تواجد الالتفاتات الشعرية في سرد الرواية ثالثا، فضلا عن أن الرواية تمتلك المساحة الأوفر لكي تصبح ضاماً دائماً، بينما يبدو الشعر خجولا في تواجده داخل النص الروائي، غير أنه أي الشعر يمكن أن يتمثل في البناء الجمالي للرواية، التي قد نصنفها في ضوء شعريتها العالية كون الشعرية ما هي إلا مجموعة القوانين الجماليّة التي تتحكم في أيِّ نصٍّ إبداعي.

 ومن جانب آخر أجد أن التشويق يعد بنية كاملة محفّزة وليست عنصراً عابراً في الرواية، وبخاصة لو استطاع الروائي أن يستثمر التشويق من داخل أحداث النص (الرواية) أو من خارجها على وفق نسق التضمين، كما يرى ذلك رينيه ويلك وأوستن وارين في كتابهما (نظرية الادب)، وهما اللذان تحدثا عن فاعلية التضمين باعتباره زرقَ نصٍّ صغيرٍ في نصٍّ أكبر من أجل التشويق، وكسر ملل التراكم الحدثي في النصّ الضام.  نقول.. من زوايا كثيرة يمكن تناول رواية (تغريبة القافر) للروائي العماني زهران القاسمي، وذلك يفسّر لنا تعدد وجوه النص ومساحة الاشتغال عليه وإمكانيته على فتح أبواب التأويل أمام النقاد لكي ندعو النص للاقتراب من ذائقة القارئ وفك مغاليه ودلالاته المضمرة.تبدأ الرواية بحادث اكتشاف غرق امرأة (مريم بنت حمد ود غانم) زوجة (عبد الله بن جميل) في (الطوي – البئر).

  وكي يظهر القاسمي شخصيات روايته ويمسرحهم جميعاً، اتخذ من هذه الحادثة مركزاً على مستويين:

1 ـ إشكالية تقديم شخوصه مجتمعين حول البئر بدءاً بالاستهلال ولذا استخدم الروائي المشهدية في تقديم الجوقة التي ستتفرد بحكاياتها الخاصة فيما بعد واحداً بعد الآخر.

2 - إشكالية تقديم محور الرواية الأساس وهو الثنائيات الضدية التي تمثلت في التقابل الدلالي بين:

الواقع/ تأويلات الفكر السلفي 

 الماء/ العطش 

النماء/ الجفاف، 

الولادة/ الموت،

هذا فضلا عما تفرزه هذه الثنائيات من تحكم منظومة

 الهجرة/ والاستيطان 

وأخيرا الصراع الاجتماعي على مستوى الواقع الصحراوي والريفي بوصفهما موطن مجتمعات سكونية.


تدور أحداث الرواية في قرية (المسفاة) من قرى عمان، وتستهل أحداثها بحادث تقليدي (غرق مريم بنت حمد ود. غانم) ويستدعي ذلك حضور سكان القرية، ومع ذلك لم يستطيع أحدهم ان يخرج الجثة من البئر، سوى ذلك الشخص المنعزل دائماً (سلام ود. عامور الوعري) الذي سيخرج الجثة من البئر. حينها يكتشف سكان المسفاة أن طفلاً يتحرك داخل بطنها ويفتي الشيخ حامد بن علي الرجل (الفقيه) بأن يدفن الجنين مع أمه المتوفاة، وبذلك يتكرس أول صراع تقابلي بين الفكر السلفي والواقع ممثلاً بـ (كاذية بنت غانم) التي أخذت مطواة (جنبية) وشقت بطن مريم المتوفاة وأخرجت الطفل الذي صرخ بوجه (الشيخ) (الفقيه) الذي أراد دفنه مع جسد أمه، وتتحرك العاطفة حين تتلقفه (آسيا بنت محمد) وهي امرأة فقدت خمس بنات وآخرهن منذ أيام قليلة وهذا يدعو إلى أن تلقم الطفل ثديها لكي تكمل انطلاقة الحياة التي دعت لها (كاذية) بشق بطن مريم .

ويتضح أن الواقع الشعبي (مجتمع القرية) يبدو راضياً عن الفعل الإنساني هذا وتستمر الحكاية حين يجيء الأب (عبد الله جميل) ليوافق (كاذية) حين تطلق على الطفل اسم (سالم) الذي سيكبر ويتحول إلى (القافر).. بسبب قدرته على سماع خرير الماء خلف الجبل وتحت الصخر وما وراء جدران صلبة صماء لا يشعر به إلا هو.

تلك هي معجزة هذا الصبي الذي بدأت آذانه تسمع ما لا يسمعه غيره، وتلك هي نبوءته اليقينيَّة.


يعمّق القاسمي علاقة (سالم بن عبدالله جميل) وامّه (مريم بنت حمد ود. غانم) بالسماء عبر أداتها (الماء) من خلال حدثين وهما:

1/  حين دفن (مريم) ومفاجأة المشيعين بانهمار المطر غزيراً وبغرق (البيت/ القبر) وكأن المودعين أو حاملي الجثة والمطر قد اجتمعا لتشييع هذا الجسد الذي غادر العالم محتضناً سرّه في مقتله.

هذا التوديع ليس غريباً حتى على تصور الأدباء والكتاب في العصر الحديث، حين جيء ببدر شاكر السيَّاب محمولاً لدفنه في البصرة في يوم شتوي حيث تداولت الكتابات أن بدرا صاحب أشهر قصيدة (أنشودة المطر) قد ودعه المطر الذي جادت به السماء لحظة الدفن وكل ذلك جزء من ثقافة واحدة مثيولوجية تكشف عن علاقة الفكر الشرقي بالنماء، والعشب، والمطر، والموت.

1/  حين أخذ المطر يساقط فيخترق سقوف البيوت الطينية شاهدت آسيا قطرات متتابعة تسقط على أذن الطفل (سالم عبدالله جميل) وتتدارك الأمر وتبعده عن المطر في بيت كاذية، حيث توظف هذه اللقطة بدلالة نبوءة الكشف التي أصبحت أذن الطفل فيما بعد آلته وبوصلته لما وراء الصخر والجبل. 

كل تلك الأحداث بدت قصديَّة مرسومة بدقة (آسيا ودر حليبها) (مريم والمطر) و (سالم وقطرات المطر) ( كاذية وشق بطن الأم مريم) . (رؤية الشايب حميد أبو عيون للجثة) في البئر العميق و (اختيار هذه الشخصية بعينيها الصقريين) يبدو مقصديّاً لكي يبرر السارد كيفية الكشف عن الجثة في أعماق الظلمة .

يعتمد القاسمي على تقنيتي تقديم الشخوص عبر حركتين وهما:

1 -  تقديم الشخصية وتاريخها وهذا واضح مع جميع الشخوص بأسلوبين للعرض التاريخي وهما:

 أ-  إما خارج الحكاية أي ما قبل حدث الرواية (وهذا هو الأعم الأغلب)

   ب- أو داخل الحكاية بالتماعات صغيرة.

2 -  تقديم الشخصية وتاريخها في حكاية مضمنة تتعلق بما يجري من أحداث الرواية.

يظهر (سلام ود عاموس الوعري) منقذاً في (ص 5) ويختفي تماماً حتى (ص83) من أحداث الرواية ليظهر فاعلاً في مجمل النص بعد ذلك، حين يقترب من الشخصية الرئيسية (سالم بن عبدالله جميل) ويبدو أن هذا الظهور مرتبط باكتشافه أن (سالماً) قد امتلك مزية سماع قرقرة الماء ما وراء الصخور التي لم تؤتَ لأحد غيره.

اختار الروائي صيغة (السارد العليم) وهو بذلك وفّر على نفسه مسرحة السارد أو عدم مسرحته وقصوره وتبرير زوايا النظر إلى الأحداث، إذ إن السارد العليم أصبح مهيمنا على زوايا النظر جميعها ومن هذه الزاوية كان الروائي قد منح نفسه حرية استخدام التنقلات السريعة والحرة بين الشخوص، والتلاعب بالأزمنة والأمكنة والتواريخ وحرية التسريع والبطء، ولهذا تراه قد استخدم التسريع الزمني بأقصى طاقاته حيث:

 1 -   شب عود الطفل سالم .. في رعاية كاذية ... وحنان آسيا ص45

 2 -  عندما أكمل سالم السنوات الست ص46

 3 -  مرت خمسة عشر عاماً على وفاة مريم بنت حمد ود غانم ص97

  4 -  مرت الأعوام ص98

 5  - تمر الأيام وتنقضي ص208

 6  - تمر الأيام وتنقضي ص209

 7  - انقضت أيام وليالٍ لا يعرف عدّها ولا حسابها ص196

 8 -  مرت ساعات وأيام ص194

 9 -  مرت الأسابيع ص 56

 10 -  بتواتر السنين ص59

 ومن جانب آخر يبدو أن كثرة الأحداث التي ازدحمت بها الرواية، والتنقلات السريعة للحدث الروائي الذي تركز على البحث عن الماء وراء الصخور ونهايات (الأفلاج) المطمورة ضغطت جميعها على السارد العليم ليتخلى عن شخوص كثيرين (بالرغم من أنهم فاعلون) ومنها:

١-  ظهور عبدالله جميل زوج مريم في بداية الرواية واختفاؤه حتى ص35

2 -  انتقال السارد إلى حكاية إبراهيم بن مهدي زوج آسيا مرضعة (سالم) ص32

3 -  شوهد عبدالله بن جميل في المشهد الأول (ص5) عند غرق زوجته بشكل خاطف وتفصيل ما حدث له في بداية سماعه صراخ الناس الذي يعلن عن العثور على جثه في البئر عند (ص37) أي بعد مرور أحداث كثيرة.

4 -  تأخر تسمية الطفل بـ (سالم) حتى ص41

هذا التقديم السريع للأحداث وتفصيلاتها لاحقاً هو ما تعاني منه الرواية العربية كلها، وكأنَّ السارد يحاول أن يضع رؤوسا أو مفاتيح أولية للأحداث في كتلة واحدة يقدمها للقارئ ثم يذهب إلى التفصيلات لاحقاً وبشكل هادئ.

يستفيد الروائي من الطبيعة لتحريك عجلة السرد، وبذلك تخلقت الطبيعة ما بين قسوتها وهدوئها حتى ولكأنّها جزءٌ من حركة الشخوص الذين كانوا يتناغمون مع حركتها، وهذا يلخص واقع (الفضاء الفلاحي العربي) الذي ارتبط بالأرض وما تنتجه له ولم يخرج من اطارها، ولذلك  

1 -  لم تذهب أي شخصية من شخصيات الرواية للمدن.

2 -  الإيحاء بأن القرى ما هي إلا موطن الخرافة والأساطير، والموروثات الشعبية، والسحر، والنذور.

3 -  تعدد هجرات الشخوص واختفاء الزمن الذي لم يعد فاعلاً في حكاية الرواية، أي هيمنة الهجرة والترحال واستبدال القرى:

 أ- هجرة (إبراهيم بن مهدي) زوج آسيا إلى قرية (الغافتين).

 ب- هجرة عامور الوعري الأولى وهو زوج صبيحة (ام سلام ود. عامور الوعري)

 ج - هجرة عامور الوعري الثانية بعد قتله زوجته صبيحة (أم سلام ود. عامور الوعري).

 د- هجرة جميل جد سالم مع زوجته وابنه عبدالله والد سالم ثم رجوع عبدالله بعد 20 عاماً ص118

 هـ - هجرة سالم بن عبدالله جميل إلى (الغبيرة) وترك زوجته ص176

  و - هجرة حمد بن غانم والد مريم الغريقة إلى زنجبار وهي في عمر ثلاث سنوات ص 24

ز- هجرة والد كاذية (غانم) عندما كانت في الخامسة من عمرها مع طبل جده المسمى (الرحماني) 

(هجر أبوها البيت وخرج هائما في الوديان والقرى) ص 76

ويبدو واضحا أن هناك تقابلا بين غربة الرجال ومحنة النساء في هذه الرواية، إذ بدا الرجال مغتربين من جهة يدفعهم الكثير من الحوافز بمفهوم (فلاديمير بروب) في دراسته عن الحكاية الخرافية وأهمها (العقم) الذي أصاب الرجال والطبيعة والذي يستدعي تمظهراته بالموت لزرع الرجل في بطن الانثى وهذا يولد التقابل الدلالي الواضح:

المرأة / الأرض 

الزرع / الطفولة 

والعنصران كلاهما متقلب ومتناحر في الرواية إذ نرى (آسيا موت الأبناء) (كاذية الجفاف) (صبرا بنت رمضان العقم) (مريم الجنون والغرق والموت) (صبيحة الجنون والقتل).

ومن خلال كل ذلك لم يلتفت السارد إلى وجود حياة في مجمل الرواية وكل ذلك تلخص بضياع الماء بالطبيعة مقابل ماء الرجل المهاجر.ويبدو أن هذه الحركة المكررة والمشتركة بين شخوص الرواية شكلت عنصراً فاعلاً في أحداثها، وكل ذلك يجري في إطار خلق نص قصصي جديد بأحداث جديدة عندما يبدأ الترك والمغادرة، وهذه تعد سمة من سمات الحكاية الخرافية، كما بحث فيها كما قلنا (فلاديمير بروب) في (مورفولوجيا الخرافة)، وبمقابل ذلك خلق الروائي مشابهة معكوسة تماماً في مصائر النساء المتروكات في القرى. 

إذ تتشابه مصائر (آسيا) و (كاذية) و (صبرا) زوجة سالم و (صبيحه) حيث تقتل بسبب هذا الترك:

 (بعد مدة عاد زوجها إلى البيت وسألها عن الطفل الذي تركه صغيراً ... وين سلام) ص92

كما خلق الروائي عبر استغلال الحكاية الخرافية مفهوم الاستبدال الذي فرضته حكايات الجن والمردة:

١-  استبدال صبيحه لابنها سلام الذي حسبته ابن الجن الذين أخذوا ابنها سلام الحقيقي وحوارها مع زوجها عامور الوعري :

(هذا ما ولدي، ولدي أخذوه الجن، هذا ولدهم، بدلوا ولدي وخلولي هذا) ص 93

وفي غمرة ذلك تناول الاب بندقيته وضرب رأس زوجته بكعبها فألقاها صريعة على الأرض) ص 94

٢-  استبدال البنية الاجتماعية التي تربت على الخرافة والأساطير، كما يرون أن ابن عبدالله جميل في بطن أمه داخل البئر، قد تم استبداله حيث اخذوا طفله وابدلوه بطفل من الجن وهو (سالم) الذي أخذ يسمع حيوات وخرخرة الماء داخل الأرض.

  هذا الاستبدال هو الذي جعل التقابل الدلالي يبدو واضحاً بين (سلام بن عامور الوعري ابن صبيحة) و (سالم بن عبدالله جميل ابن الغريقة) وكلاهما حارس الماء ومكتشف نبعه.

لست أجانب التأويل عندما أفترض أن السارد كلي العلم قد قارب شخصية (سالم بن عبدالله جميل) الطفل اليتيم صاحب نبوءة الماء من شخصية المرسل الرسالي يوم كذبه المجتمع الصحراوي، بما يقابل تكذيب المجتمع الفلاحي هنا في الرواية لسالم وتحمله شتائم وتهكم أبناء عمومته عليه؛

(إنه مجرد طفل يتيم فقير مع أب ضعيف) 

كما يمكن توجيه التأويل عند شخصية (إبراهيم بن مهدي) زوج (آسيا) الذي هاجر بعيداً ثم ارتحال آسيا إليه لتجده مقصياً من القرية التي هو فيها (الغافتين) منبوذاً مصاباً بالجذام والجرب متكئاً على جذع شجرة بعيدة في أقصى أطراف القرية وربما يقودنا هذا الافتراض إلى الاقتراب من حكاية (أيوب) الذي انتبذ بعيداً وهو مصاب بالجذام.

أقول: إن هذه مشاهد ربما صورت بشكل لاشعوري، إلا أن وقائع الرواية تقودنا إلى تلك المواقع الراسخة في لا وعينا الفكري. والتي من السهل إسقاطها بشكل لا إرادي في عمل روائي.

  يبدو أن وجود مرضعة سالم (آسيا بنت محمد) وبقاء سالم ملتصقاً بها حتى وهو في السادسة من عمره (ص46) ، يولد الاحساس باستفادة الروائي من مفهوم التاريخ بوصفه مرويات ضاغطة على ثقافة المجتمع العربي مادامت الرواية (تاريخ بحث متدهور عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور) كما يرى (لوسيان گولدمان) في كتابه (الإله الخفي).

  قلنا: إن القصص تعددت حتى أننا بإمكاننا أن نعد تلك القصص ملتصقة بقرى حدثت فيها وهي:

(المسفاة، المسيلة، نزوى، الغبيرة، مطرح، الغافتين، الوضيحي) وقد استبعدت (مسقط) من الأحداث تماماً حتى إن المتلقي كان يتوقع أن يذهب (إبراهيم بن مهدي) زوج آسيا وهو المتحدث اللبق الذي اطلق أهل المسفاة عليه (الملاق) والذي اختير كي يتحدث أمام الشيخ عيسى بن حمدان الذي زار المسفاة وبرع في حديثه وأعجب الشيخ عيسى بحديثه فهمس بإذنه أن يأتي إلى مسقط العاصمة المتمدنة، إلا أننا لم نره إلا وأخيراً منبوذاً في أقصى قرية (الغافتين).

استغل السارد (الماء) بوصفه عنصراً فاعلاً في الرواية والحياة، إذ استهل روايته بالماء وختمها بالماء.

الاستهلال عند بئر المسفاة والخاتمة عندما أطلق عليها (البلدة) التي ذهب لفلجها كي يفجر فيه ماءه المحتبس. وما بين هذين حينما وجدنا الماء ساقطاً من السماء عند توديع جثة (مريم):

(وقال رجل في الأربعين من عمره وهو يرفع رأسه صوب السماء

- هذي الحرمة ربها راضي عنها

     ..............

  وزاد انهمار المطر عند اقتراب النعش من المقبرة) ص30

 وذهاب سالم بن عبدالله جميل بن مريم الغريقة الى البلدة ليفك ختم فلجها، وكأننا نجد الأحداث بمجملها في الرواية مبحرة من موت في الاستهلال إلى موت في الخاتمة.

  وتختلط مع الماء حكايات ومصائر الشخوص في محاولة لسرد حياة مختلطة فيها من الواقع الشيء الأكثر، حتى إشارة السارد إلى العقد الذي ابرم بين (سالم بن عبد الله) والفتى الثلاثيني (محسن بن سيف) الذي تكاتب معه (كتب معه عقدا) على فتح فلج (البلدة) كما يسميها.

نجد السارد وقد تجنب الذهاب إلى وصف السلطة إلا لحظة كتابة العقد على اعتباره ممثلا للقانون الذي تحميه سلطة غائبة، كون القرى فطرية الحياة إلى حد أقصى بالتوصيف، وكأن الناس تركوا في تلك القرى في صراعهم مع الطبيعة والماء.

 وبهذا تحيلنا تلك الحكايات المتناسلة في الرواية إلى (ألف ليلة وليلة) ومصائر الشخوص الذين كانوا فقراء يبحثون عن حظوظهم العاثرة، وبخاصة قصة موت التاجر وخاتم الفضة الذي تركه لولديه (مسيعيد ودخلفون وأخيه) وتنازعهما للاستحواذ على الخاتم، ثم سرقته من قبل صديق الأب الذي اقترح عليهما أن يلقيه في الصحراء. 

وربما نجد في هذه الحكاية المضمنة من التأثير القرآني الكثير إشارة إلى تنازع الأخوين صاحبي المزرعتين التي وردت في القرآن.

 ومع هيمنة الحكاية الخرافية وما يغذيها من السحر والحرز وإنجاب الأطفال والنذور والدعاء الذي تجسد في شخصية آسيا عند ولادة ابنتها (شنّة) يمكن أن نعتبر آسيا النموذج النسوي المقهور الذي تخلى عنه قرينه (إبراهيم بن مهدي) وينتقل هذا النموذج إلى شخصية أخرى وهي (صبرا بنت رمضان) زوجة سالم بن عبدالله بن جميل التي ظلت في الرواية منتظرة الغائب الذي طالت غيبته وهي التي لم يعرف بها أي شخصية من شخصيات الرواية ماعدا السارد كلي العلم غير الممسرح.

  ويبدو أن الحكاية الشعبية هي الأكثر تأثيرا على سير الرواية عبر تضمين قصة خارجية (ص59) (كان هناك راع لديه قطيع كبير من الأغنام يطوف به في أنحاء الأرض) انظر ص50 - 51.

  هذا التضمين في الرواية لم يأتِ اعتباطياً، بل هو مكرس أيضاً لثيمة (موضوعة) الرواية. وكأن السارد يستغل الحكاية الخارجية ليعزز من قيمة موضوعته التي قامت الرواية على أكتافها.

  تبدو بعض الأحداث في الرواية خارج السياق، حتى أننا لم نجد تمهيداً إشارياً لما يمكن أن يروى لاحقاً عن طريق (الاستباق)، إذ نفاجأ بلحظة مواجهة بين سلام بن الوعري وكاذية (ص111) وإشارة عابرة إلى حبهما القديم الذي كان لا بد من استغلاله بالطريقة الأجمل لبعث الطراوة في النص الروائي الذي خلا من هذا الجانب الثيمي المهم.

  لقد سميت القرى بمسمياتها، كلها، والغريب ان الرواية تنهي أحداثها عند (بلدة) كما يطلق عليها السارد لا اسم لها أو (القرية الميتة) والتي ذهب إليها سالم بن عبدالله جميل باتفاق مع محسن بن سيف الذي طلب منه أن يذهب معه ليبحث عن الماء في فلجها، وكأن الرواية حاولت أن تنهي هذا الصراع كله في قرية لا اسم لها سوى ما يطلق عليها البلدة. وكأننا نسأل هل اقترب السارد من توصيف المدينة بالبلدة؟ 

(خرج القافر مع محسن بن سيف من قرية المسفاة ذاهبين إلى المجهول لا أحد يعرف مداه) ص176

وهنا تحول (سالم بن عبد الله جميل) إلى مبشر بالحياة وكأنه يتلبس شخصية المنقذ واتضح ذلك لحظة انتقاله الأخير إلى البلدة وترحيب أبناء القرى به التي كان يمر بها.

 بدت نهاية الرواية مفتوحة تشير إلى أفق بعيد نحو تأويل المتلقي وإمكانات تخيله ولو أردت أن أُنهي تخيلي على مستوى القراءة الخاصة بيّ أقول:

 استهلت الرواية بموت الأم في قعر الماء (البئر) وانتهت بموت ابنها سالم في قعر ماء (الفلج) في قرية الموت وكأن هذا العالم الذي رسمه السارد كان محكوماً عليه بالموت بمجمله.