عادل الصويري
مثل فلاحٍ مجتهد، يحرثُ الشاعر علي جعفر العلاق أرض قصيدته، مستثمراً مطرَ لغته النازل من غيمةٍ مختلفةٍ ونائية عن غيوم الواقعية والتسجيلية التي تزخُّ مطرها بشكل مباشر ومتفاوت. قصيدة العلاق تهمس مزدحمةً بصوفيةٍ من نوع خاص، لا علاقةَ لها بدوران الدراويش، ولا بالنايات. غاية صوفيته النفاذ إلى رأس عصفورٍ ينقر نافذةَ الكلامِ؛ لتمتلئ برقص الطبيعةِ الدائريّ، وأسئلتِها الجمالية، كأنها ملحمة درامية، شخوصُها يتوافدون على القصيدةِ كائناتٍ مختلفةَ الهيئةِ والمزاج:
“يتوافدونَ : أرى القصيدةَ تستعينُ بِهم عليَّ ، فأستعينُ بهم عليها. القشُّ: ينزفُ من يديها، والضوءُ ينزفُ من يديها. وهي القصيدةُ إذ تجيءُ ولا تجيءُ”
تتعدد منابع الثقافة والمعرفة في تجربة العلاق، وهو ما جعل لغته لغةَ تراكم تراثي، وتدفق معاصر، فكل الهم الإنساني حاضرٌ في قصيدته على شكل أساطير وعقائد وقضايا وفلسفات وتاريخ. هذا الحضور في الحقيقة هو حضور ذات العلاق نفسها، وأنَّ أي فصل بين هذه الذات، و حضور العوالم ما هو إلا محضُ عبث.
وحتى ذات العلاق، هي مجموعة ذوات متشابكة، تعبر بالقصيدةِ من زمنها إلى أزمنة أخرى. ذاتٌ تعتني بتلك التفاصيل الهامشية، أو “الصغائر الكبيرة”؛ فالشاعر أدرى بأن هذه الجزئيات الصغيرة؛ هي التي تتشكل منها الحياة بصورها الحية، ولا يعني هذا أن العلاق يرصد التفاصيل، بحيث يسكبها عشوائياً في قصيدته، بل هو يرصد الدال منها، والكلّيَّ الذي يضيءُ فيها، حتى إن التقطها من جسدِ امرأةٍ في “سرير من حنينٍ وحجر” ، أو من شيخٍ يبكي في ليله البدويِّ، وغيرها من الأشياء التي تجعله يمسك بالزمن الجوهر، حتى مع تغير مزاجه نفسياً مع كل تفصيلة صغيرة يلتقطها ويحوِّلُ عموميتها الحياتية إلى خصوصية شعرية، تحرض المتلقي على الارتطام بالمنسيِّ منها:
“سيدي أيُّها الشاحبُ المرتخي بين هذي البيوتْ
مثلما يذبلُ الحطبُ، المتعبونَ، القُرى،
مثلما تتعرى التخوتْ
في الصباح المبللِ من دفئها
ما الذي يجعلُ القلبَ يخفقُ كالخيطِ؟
يعشقُ أخطاءَ قاتلِهِ ومصاطبَهُ اليابسةْ
وطنٌ يرتخي كالندى لامعاً في رمادِ القُرى اليائسةْ”
ثنائية الشاعر والناقد
يُخيّل لي أن الحس النقدي لدى علي جعفر العلاق يمثلُ له سوراً يحمي به قصيدته من أيِّ عاطفةٍ تبالغُ في سيلانِها، أو كلامٍ يتطرَّفُ في ارتخائه. وقد يكون هذا نادراً مع ثنائيات شعرية نقدية عديدة لم تتخلص في نقدها من كماشتي النقد المسكون بالغبار المنهجي الدَرْسيِّ الغليظ، وذلك الذي يدور في الكلام الصحفي المستهلك (كلام جرايد).الشاعر الرائي وحده من يحافظ على توازنه بين الممارستين: الشعرية والنقدية؛ خصوصاً لو تردّى المشهد النقدي، واستحالَ إلى إخوانيات فارغة، مربوطة بربطة عنق أنيقة ليس بوسعها تصحيح أخطاء الناقد الإملائية!
لذلك نرى في بعض قصائد العلاق ما يشبه التنظير الجمالي الذي يمكن له اختزال النظريات الباحثة في الجمال الشعري ببضع كلمات، كما فعل أدونيس حين قال في إحدى قصائده: “عش ألقاً وابتكر قصيدةً وامضِ، زد سعةَ الأرض”
ولعلَّ التعبيرَ النقدي من داخل الشعر، وطرحه على أنه وجهة نظر فنية أصبح نقداً موازياً، لا نبالغ لو قلنا إنه أكثرُ جمالاً من ذلك النقد المرصوف بكلماتٍ متقاطعة على صعيد الرؤية والدلالة. ومثل هذا الاشتغال لن يجيده إلا الشاعر الرائي، والعارف بأسرارِ لغته وإمكانياتِها، الجالسُ هادئاً على صخبِ أمواجِها. الشاعر الذي تنعكس التحولات على حياته، فيشتبكُ معها داخل القصيدة:
“يتجمَّعُ الغُيّابُ عندَ قصيدتي:
أبوابُها حجرٌ وغيمُ الروحِ عبرَ رمادِها يعلو،
أَ تبتدئ القصيدة والرمادُ مجاورٌ روحي
قد تستحيلُ قصائدٌ شَجَراً بلا مطرٍ ، وأرصفةً بلا قمرٍ
وقد نصغي إلى شعراءَ من وردٍ
ونلمحُ ضجَّةً سوداءَ تقتحمُ القصائدَ والوسائدَ “
العلاق هنا مُنَظِّر شاعريٌّ بدرجة متنبِّئ بواقع مشهد الشعر الحداثي. وربما يُجيب عبر هذه الكلمات عن تساؤلات حول مستقبل الكتابة الشعرية الحديثة؛ وإشكالية انفصال الحداثة بين تلقيها من جهة، وكتابتها والتنظير لها من جهة أخرى؛ ليقول : إنَّ طموح التحديث قد يظهر في قصيدتي هذه، أو في قصيدة أخرى، أو ربما في قصيدةٍ أُفكرُ في كتابتها ولا أكتُبها؛ لسبب ما. وبكل الأحوال سيظهر المستقبل مع أجيال جديدة تشرحُ الأشجار من غير حاجةٍ لمعجم المطر، فوردُ الكلامِ سيتكفل بالتفسير عبر العطر، حتى مع صوت الضجيج الأسود الذي سيلاحقُ أحلام الشعرِ دون جدوى.