عشبة السرد.. الكاتب في مسعاه للخلود

ثقافة 2023/08/07
...

 محمد جبير
خطا كلكامش خطوته الأولى للبحث عن عشبة الخلود، لكن هل كان على يقين تام في العثور على تلك العشبة؟ وإذا لم يعثر على غايته فكيف ستكون رؤيته للحياة والعلاقات الاجتماعية؟ هو يرغب في العثور ليكون خالدا أبديا، وينتقل من الدنيوية إلى العلوية، لكن السؤال الذي يبقى قائما: هل يقبل من اعتلوا العرش العلوي، وتقاسموا واجبات ووظائف الخلق، هذا الوافد الجديد؟ هل حقق ذلك المغامر حلمه في الخلود؟ وما معنى الخلود الذي أرادت المدونة الحجريَّة أن تؤكده في خطابها العام؟ هل هو البقاء على قيد الحياة؟ أم بقاء الأثر أو المنجز الإنساني والتاريخي والحضاري والثقافي؟
كان كلكامش في رحلته تلك يدرك جيدًا أنّ الخلود لمن في الأعلى، ذلك السارد العظيم «الخالق» الذي يرى بعين العالي من مختلف الزوايا، ويرسم حركة مخلوقاته، ويقدره بمقدار لا يعلمه إلّا هو، الأنا والنحن، الذي يرى ويروي لنا ما يراه،  ولا يمكننا أن نراه إلّا من خلال موقعه ورؤيته.
هل كان كلكامش ذلك السارد الذي ترك لنا ملحمته الخالدة؟
أم هناك من كان يراقب حركته ويدوّنها على ألواح حجر مفخور؟
لتبقى هذه الرحلة أثرًا خالدًا يشغل العالم أجمع على مرّ العصور.
لو ابتعدنا قليلًا عن هذا المشهد السردي إلى مشهد آخر، سنرى صيغة، أو شكلًا آخر من أشكال الخلود يختلف كلّيًا عن حكاية كلكامش، فقد كانت عشبة خلود حمورابي ليس في انتصارات على أعدائه، وإنّما في مسلّته الحجريَّة التي سعى فيها لتأسيس مجتمع مدني حضاري تحكمه القوانين.
بين الملحمة والمسلّة خيط رابط أكّد وجود عشبة الخلود، لكن لكلٍّ منهما عشبته الخاصّة على الرغم من أنّهما بقيا من تراث الاجداد للاحفاد، وعليهم أن يعوا الدرس ويدركوه جيّدًا ليكونوا قدوة للإنسانية في الفعل والرؤيا، هذا الأثر في أنموذجه الأوّل أكّد على قدرة الخلق الإبداعي لدى الإنسان العابر للأزمنة والعصور.
وشهدت العصور اللاحقة نماذج سرديَّة أمسكت بهذه العشبة، في حين اختفت الكثير من المسرودات التي لم تترك أثرًا بعد ولادتها، لأنّها لم تكن تحمل همًّا إنسانيًا وكونيًا يمكّنها من القبض هذه العشبة ويكسبها صفة الخلود، فما زالت تلك الأعمال الخالدة تثير شهية الباحثين والمفكّرين والدارسين، وتزداد الحفريات المنهجية والمعرفية في دراستها على المستويات كافّة، ووفق المناهج العلمية الحديثة لتضاف نتائج تلك الحفريات إلى كشوفات ممن سبق وقاموا في مغامرة الحفر في دراسة تلك النصوص.
فإذا أردنا أن نقف عند شواطئ الإبداع العالمي في القرن التاسع عشر الذي يعدّ قرن التأسيس الحقيقي لوجود نمط الكتابة الروائيَّة، فسوف نكتشف أسرار خلود بعض تلك الأعمال، وفي المقابل خفوت أعمال مزامنة لتلك الأعمال الخالدة، ونقف عند أسماء شكّلت فنارات في مسيرة الإبداع السردي، وكان كلّ اسم إبداعي من أمثال فلوبير وستندال وفكتور هيجو وبلزاك ودستوفسكي وتولستوي وجويس عتبة إبداعية انتقلت بالسردية العالمية من مرحلة إلى أخرى، أو إنّها شكّلت اتّجاهًا سرديًا يحسب لصاحبه، ليكون بعد ذلك مشاعًا لكُتّاب القرن العشرين، مع إضافات إبداعية لهذا الكاتب أو ذلك، فقد كانت وولف مختلفة عن مان أو ريمارك أو فوكنر أو ميلر أو زفايج وبورخس وماركيز ويوسا، وكلّ واحد من هؤلاء الكُتّاب يختلف عن الآخر في رؤيته للعالم وخصوصيته في التعبير عن هذه الرؤية، وهم الذين قبضوا على جمرة الإبداع التي بقيت متوهّجة من نصّ إلى آخر.
ولم يعرف العالم العربي السرد الحديث إلّا مع مطلع القرن العشرين مع أعمال روائية، أرادت محاكاة تلك الأعمال العالمية، وهي محاولات تمهيدية تبحث عن تربة صالحة للإنبات، ولأنّ الأعمال السردية وأنا أتحدث عن عالم الرواية لا يمكنها أن تنتج من بين مجتمعات متخلفة، أو في طور التشكّل، وإنمّا هي إنتاج مجتمعات متكوّنة وفاعلة في الحياة الإنسانية وقادرة على إنتاج تجارب إنسانية مختلفة، محفّزة على الخلق الإبداعي، مجتمعات حيّة وليست مجتمعات خاملة وسلبية تعيش حياة سكونية راكدة.
واستطاع كُتّاب من خلال مواصلتهم وصبرهم في تقديم ما يؤكّد جدّية مشروعهم السردي وتطوير إمكاناتهم الخاصّة في الكتابة الإبداعية من مشروع لآخر، وفي تنوّع رؤيتهم الفلسفية للحياة مما أضفى على تجاربهم الكثير من الجدّية وأكّد الخصوصية الذاتية للكاتب، ولا أقول الهوية، وفي هذا الصدد لدينا خير مثال في تقرير لجنة منح جوائز نوبل للإبداع، التي ذكرت في تقريرها أثناء منح الكاتب العربي نجيب محفوظ الجائزة أنّها منحت له لترسيخه النوع الادبي، بمعنى أنّ جهود نجيب محفوظ رسّخت نوع الكتابة الروائية في الوطن العربي، وهو الأثر الذي أكسبه الخلود محلّيًا وعربيًا وعالميًا.
لنقف عند نقطة محدّدة، هي أنّ كلّ كاتب يبحث من خلال منتجه السردي إمّا عن الانتشار أو الشهرة أو الخلود، وهذا مسعى مشروع لكلّ كاتب له ما يختاره وفق إمكاناته ورؤاه وتصوّراته للعملية الإبداعية، إذ إنّ الكاتب الذي يسعى إلى أن يترك منجزه الإبداعي أثرًا يختلف في رؤاه الجمالية عن الكاتب الذي يبحث عن الشهرة أو الانتشار، إذ لم يكن عبد الحقّ فاضل أو عبد الملك نوري أو فؤاد التكرلي أو غانم الدباغ أو موسى كريدي أو آخرون يبحثون عن الشهرة والانتشار، حيث كان على سبيل هناك كُتّاب من درجات أدنى إبداعًا أكثر شهرة وانتشارًا منهم، وتطبع كتبهم بأغلفة برّاقة ومسلفنة أمثال حازم مراد وكُتّاب على ذات النمط، لكن جذوة الإبداع وتجدّده تبقى عند الأسماء الأصيلة التي تحترم الكلمة وتضعها في موقعها الحقيقي من الفعل الإنساني، لذلك تندثر تلك الأعمال التي قد تحقّق انتشارًا آنيا أو شهرة وقتية، ويبقى الإبداع الخالد الذي يؤمن بالجماليات السردية وفي سرّ حكايتها الإبداعية تكمن عشبة الخلود.