عبر مسيرتي الإعلاميّة الطويلة، تهيّأتْ لي فرصة التعامل مع التلفزيون مدّة قصيرة، في حين تواصل عملي مع الاذاعة قرابة ربع قرن وان لم يكن تواصلي منتظماً، أما الصحافة فكان لها النصيب الأوفر، لأنّها بدأت منذ النصف الاول من ستينات القرن الماضي ومازالت حتى عامنا المبارك هذا من دون اي انقطاع، وهذا يعني ان عملي كان متداخلاً بسبب توزعي بين اكثر من وسيلة اعلامية في وقت واحد، وفي الحالات كلها لم أخرج عن كوني كاتباً او محرراً في المصطلح
الصحفي..
ومفردة كاتب او محرر تحتمل فنون الكتابة الاعلامية جميعها على تباين مسمّياتها، والغريب ان ما يزيد على نصف القرن الذي أمضيته في الإعلام عامة، والصحافة خاصة، لم يؤثر على رغباتي في نوعية الكتابات التي رغبت فيها او عنها، ولذلك بقيت على سبيل المثال، بعيداً عن (تحرير الاخبار) وعن (التحليل السياسي)، من دون ان يعني هذا انقطاعي عن عالم السياسة العام، وربما كان انشغالي بالمقالة الصحفية يستدعي الاقتراب من السياسة الى حد الملامسة، لان طبيعة المقالة بغض النظر عن مضمونها لا بدَّ لها من الاتكاء على المعطى السياسي بهذا القدر او ذاك، ومن هنا امضيت شطراً طويلاً من حياتي وانا شديد الحرص على متابعة نشرات الاخبار والتحليلات السياسية والحوارات التي تدور في هذا الاطار، لكونها جزءاً رئيساً من (المعلومة) التي أدعم بها كتاباتي ...
بعد 2003، أصبحنا فجأة نمتلك عدداً من وسائل الاعلام يفوق حاجة المواطن، وبقدر ما يبدو هذا الانقلاب الاعلامي (من قناتين أرضيتين مثلاً قبل التاسع من نيسان الى اكثر من مئة فضائية بعد هذا التاريخ) أمراً بالغ الاهمية للعراقي وحريته ومتعته وسعة اطلاعه، بقدر ما كان على الصعيد الشخصي عامل تشويش لافكاري وقناعتي، ومدعاة لتوريطي في معلومات غير دقيقة، فالخبر الواحد يصبح عشرين خبراً او ثلاثين، لأنَّ كل فضائية تتلاعب به وبأرقامه وصياغته ومعلوماته على وفق اجندتها (معذرة اذا كنت أجهل معنى أجندة ولكنّني استعملها على قاعدة حشر مع الناس عيد)، وهكذا وجدت نفسي مضطراً الى تحصين رأسي وفكري وقلمي من هذه الفوضى، ولكن الاستغناء عن الفضائيات غير منطقي، ولذلك اكتفيت باختيار ثلاث فضائيات متخصصة بعروض عوالم (الحيوان والنبات والطبيعة)، وكنت سعيداً في هذا الاختيار، وزاد من سعادتي ما كنت اكتشفه من قناعة لدى الحيوان تبلغ حد الزهد، وهو ما تفتقر اليه ذرية آدم، فالاسد مثلاً، هذا المفترس المرعب، يتحلّى بأخلاق الفرسان، فهو يصطاد ما يسدُّ جوعه، حتى اذا شبع استرخى على الأرض، ومن حوله مئات الحيوانات والغزلان تلعب وتلهو بأمان.
ومن هنا تولّد عندي يقين راسخ بأنّ الأسد أشرف من ثلاثة أرباع سياسيي الكرة الارضية عامة، وسياسيي البلدان النامية خاصة، لكونه كائناً يستحق صفات (النبل والرجولة)، ويجب أن ننزع هذه الصفات عن أشباه الرجال والذين لا يشبعون من اللحمة والهبرة والدينار والدولار والمال الحرام ...