د. فلاح الحسن
دخول القوات الأوكرانيَّة لإقليم كورسك بعد فتح جبهة إقليم بلغرود وإضافة مئات الكيلو مترات إلى طول جبهة القتال، غير صحيح من الناحية التعبوية ومغامرة غير محمودة العواقب على المدى الطويل للأسباب التالية:
- الدخول أكثر من مئة كيلو متر داخل الأراضي الروسية يحتاج إلى خطوط إمداد طويلة لتزويد القوات بالسلاح والعتاد والدعم اللوجستي لتشغيل الآليات العسكرية وأرزاق لمواصلة التقدم والمحافظة على الأراضي الجديدة التي سيطرت عليها.
- الحاجة لقدرة عسكرية كبيرة عدداً وعدة لحماية خطوط الإمداد، كنشر منظومات الدفاع الجوي وأجهزة الرصد وإنشاء تحصينات ومواضع للجنود فضلاً عن الآليات المستخدمة حتى لا تكون عرضة للاستهداف السهل جواً وبراً.
- ضرورة توفير قوات احتياط لتعويض الخسائر البشرية الناتجة عن العمل العسكري اليومي في تلك المناطق، فالمعلومات المتوفرة تؤكد أنَّ كييف استخدمت في هذه العملية قواتها الاحتياطية، فكيف ستتمكن من إدامة زخم قواتها إذا كانت أصلاً تعاني النقص في أعداد هذه القوات.
- الغطاء الجوي للقوات الأوكرانية المهاجمة شبه معدوم ما يسهل استهدافها من الجانب الروسي.
- عدم قدرة كييف على استخدام بعض الأسلحة الغربية وفي مقدمتها الصواريخ الأميركية لاستهداف العمق الروسي ما يجعلها مكتوفة الأيدي وغير قادرة على الاستمرار.
- طول جبهة القتال سيعرّض القوات الأوكرانية لفقدان عمقها الدفاعي ويقلل من خطوط الدفاع الخلفية بسبب نقل القوات إلى المناطق الجديدة.
- الحاجة إلى مضاعفة كمية العتاد المستخدم في القتال لسد حاجة القوات التي تسيطر على المساحات الجديدة، علماً أنَّ الجانب الأوكراني يعاني نقصاً في العتاد وبالخصوص صنف المدفعية.
كل هذه الأسباب تجعل مهمة القوات الأوكرانية في الحفاظ على النجاحات التي حققتها في إقليم كورسك صعبة جداً أو شبه مستحيلة على المدى الطويل. في الوقت نفسه نرى أنَّ القوات الروسية تحقق مزيداً من الانتصارات على جبهات القتال الأخرى وتستولي على أراض جديدة وبالذات في إقليم دونيتسك! وهذا ما يثير الاستغراب، فالمنطقي أن يقوم الجانب الأوكراني، إذا كان قادراً، بوقف التقدم الروسي البطيء لكنه مستمر على جبهات القتال بدلاً من فتح جبهات جديدة ليس من السهل إيجاد الأعداد الكافية من الجنود والأسلحة والأعتدة والاحتياجات الأخرى لإدامتها.
من غير الواضح كيف ستتمكن أوكرانيا من الحفاظ على الأراضي الروسية التي احتلتها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ هذه الأراضي كانت خالية من الجيش الروسي ومفتوحة إلا من حرس الحدود، فهل ستتحمل الضغط المتزايد الذي يسببه إرسال موسكو المزيد من قواتها العسكرية المدججة بالسلاح والعتاد إلى إقليم كورسك؟ ومن المؤكد أنَّ رد الفعل الروسي لن يكون مقتصراً على طرد القوات الأوكرانية بل ستعمل موسكو على الدخول في العمق الأوكراني لتأمين حدودها مستقبلاً، إذا تمكنت من ذلك.
إنَّ التوغل الأوكراني يمثل ضربة موجعة للمؤسسة العسكرية الروسية ولصانع القرار فيها، فهذه المرة الأولى التي تتعرض فيها الأراضي الروسية للاحتلال بعد الحرب العالمية الثانية وبالذات في إقليم كورسك الذي جرت فيه معارك طاحنة بين الاتحاد السوفيتي والقوات الألمانية، ما يعطي بُعداً معنوياً جديداً للقوات الروسية وبالخصوص مع استخدام الدبابات الألمانية في التوغل الأوكراني.
نرى أنَّ المغامرة الأوكرانية في احتلال أراض روسية هي أول ملامح قرب انتهاء الحرب الدائرة بين الطرفين للأسباب التالية جميعها أو بعض منها:
- رغبة كييف في امتلاك ورقة ضغط استعداداً للجلوس إلى طاولة المفاوضات الحتمية في نهاية المطاف.
- إظهار صحة الموقف الغربي وبالذات الأميركي الداعم الرئيس لهذه الحرب وأنَّ الأموال التي أنفقت وخُصّصت لم تذهب سدى وها هي تأتي أكُلها.
- قد تكون محاولة غربية لسحب يد موسكو من الصراع في الشرق الأوسط وإمكانية دخول روسيا إلى جانب حلفائها في المنطقة عن طريق إرسال الأسلحة المتطورة تطبيقاً لما صرّح به الرئيس فلاديمير بوتين حين وعد بدعم كل الدول التي تكافح ضد الهيمنة الغربية.
- قد تكون الخطوة الأوكرانية هي لتشتيت القوات الروسية ليتسنى لها إيقاف تقدمها في مناطق القتال الأخرى.
- قد تكون هناك رغبة أميركية بإنهاء هذه الحرب والتفرغ والاستعداد لتطور الأحداث في الشرق الأوسط وكذلك لمواجهة المارد الصيني المتنامي ومحاولته استعادة تايوان، كما يرى الكثير من المختصين بالشأن الصيني.
إنَّ ارتفاع حدة الصراع وأوار الحرب مع قرب الانتخابات الأميركية واحتمالية عودة الرئيس السابق ترامب إلى البيت الأبيض وإمكانية توقف الدعم الأميركي، تجعل القيادة الأوكرانية في موقف محرج وصعب جداً لا تُحسد عليه، يجعلها تتخذ هذه الخطوة الصعبة للتخلص من المطالبات الغربية بتحقيق نصر ولو مؤقت على ساحة المواجهة.
ما يزيد المشهد ضبابية انتظار ما ستفعله موسكو رداً على احتلال أراضيها، فهل نحن على مقربة من نهاية هذه الحرب بعد أن تفقد كييف كل أوراقها التفاوضية وقناعتها بعدم قدرتها على الصمود لفترة أطول مع وصول رئيس جديد للبيت الأبيض؟ لكن المؤكد أنَّ موسكو لن تجلس إلى طاولة المفاوضات إلا بعد تحرير كل أراضيها، هذا ما ستُجيب عنه الأيام المقبلة، فهل سيطول الانتظار؟
• سفير جمهورية العراق في براغ