آخر الأربعة!

الصفحة الاخيرة 2019/06/17
...

 جواد علي كسّار
يعود أول تعاملي معه إلى أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، حين رأيتُ نفسي وجهاً لوجه مع كتابه العتيد: «من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي» الذي تقع طبعته الثالثة بألف وواحد وثلاثين صفحة بالتمام والكمال، ثمّ توطدت العلاقة أكثر مع كتابه الآخر: «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» الذي كان قد أطلّ علينا للمرّة الأولى أوائل سبعينيات القرن المنصرم؛ أي قبل نصف قرن من الآن.
الحقيقة لم أنجذب إلى كتاباته من واقع تبنّيه للمنهجية الماركسية، وتطبيقه للجدلية التاريخية، فهذا كان أبعد شيء عن اهتماماتي، كما متبنياتي، بل كان أبلغ ما يعجبني فيه هو وضوحه الشجاع في إبداء أفكاره، ودرايته الموسوعية بالتراث ومعارفه المتنوّعة، وإصراره العنيد على متبنياته، وعلى أن يساوي بالنقد بين الجميع، وفي الطليعة تلك «النزعات» السطحية الطارئة في الثقافة والفكر، التي كانت يومها تتوارى خلف «شعاريات» اليسار، وتتوكأ على «مصطلحات» الجدلية والتأريخية، وهي تقدّم مادّة مُقرفة، على أنّها قراءة لتراث المسلمين، بل قل لدينهم!
تعاملتُ مع كتاباته ولاسيّما مشروع «من التراث إلى الثورة» وخاصّة المجلد الأول الذي مثّل المدخل إلى المشروع؛ تعاملتُ معه كموسوعة في الفكر والمنهج والنقاش، ولا أنكر أنني استفدتُ من رؤاه النقدية الصارمة لليسار الفكري المسطّح وثقافته الطفولية، وكيف كان يُكيل له الصفعات الثقيلة بأسلوب الضربة القاضية، ولا زلتُ أعتقد بأهمية هذا الكتاب ـ المدخل من هذه الزاوية.
ولأنّه بعيد عن المجاملة، فقد كان من الصعب أن ينجرّ بسهولة وراء مقولات الآخرين ومشاريعهم من دون نقد، أو يُسلّم للأسماء اللامعة ويتهيّبها، فما زلتُ أذكر نقده الجريء الواضح للمفكر المغربي محمد عابد الجابري (ت: 2010م) حين كان الجميع يتهيّبه بعدما راح اسمه يلمع أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، وهو يرتبط برباعية نقد العقل، التي مهّد لها بـ «نحن والتراث» و«الخطاب العربي المعاصر» فحتى أجرأ ناقدي الجابري وأكثرهم رصانة علمية يومذاك، كعلي حرب، لم يجرؤ على مهاجمة قراءة الجابري في رؤيته عن الطابع الأوروبي للحضارة العقلية، وكيف تعود هذه القراءة إلى مركزية أوروبية للحضارة العالمية، في مقابل «هوامش» متعدّدة لتلك المركزية نقبع بداخلها، ومن ثمّ لم يُبال حين نعت مشروع الجابري، بأنّه تعبير عن حركة من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المشرقي؛ المغربي تحديداً، نسبةً إلى «المغرب» وطن الجابري وبلده!
لقد رحل عنّا المفكر السوري طيّب تيزيني في شهر رمضان، ليغلق غيابه ملف أربعة من كبار رموز منهجية اليسار المعرفي خلال نصف قرن، تشهد آثارهم على دراية وعلم ومعرفة بتراثنا المعرفي، هُم حسين مروّة وهادي العلوي ومحمود أمين العالم، وآخرهم طيب تيزيني!