لعلَّ عبارة (الحضارة العربيَّة الاسلاميَّة) هي أكثر ما علق في ذاكرتنا من أيام المدرسة، وهي بالمقابل أشهر عبارة تصدرت عناوين البحوث والدراسات والتآليف حتى ملأت رفوف مكتباتنا العامة والخاصة، وربما لم ينتبه أغلبنا أنّ المراد بها هي النتاج الإبداعي للعصر العباسي فقط، وآية ذلك أنّ السيوف في هذا العهد عادت الى أغمادها بعد أن توقفت الحروب وخضع نصف الكرة الأرضيّة لهذه الامبراطورية مترامية الأطراف، ولا بدَّ أنّ سيادة الأمن والسلام والطمأنينة مع وفرة غير مسبوقة في المال والثراء لخصها هارون الرشيد بخطابه الذي لا يخلو من غرور للغيمة ان تمطر حيث أرادت فخراجها عائدٌ للخزينة او بيت المال، أقول لا بدَّ أنّ هذين العاملين على وجه الخصوص (السلام + الاقتصاد المتين) كانا وراء ازدهار حياة غير مسبوقة، فيها الكثير الكثير من الاسترخاء والقدرة على التفكير والتأمّل وتعويض سنوات الحروب والفتوحات بسنوات التسلية والراحة والمتعة، ومن هنا وصف المؤرخون هذا العصر بأنّه عصر الغناء والطرب والغلمان والجواري والقيان والشراب والتهتُّك والمجاهرة بادّعاء النبوّة والشعر الماجن، مثلما وصفوه بأنّه عصر التألق الفني والموسيقى وازدهار علوم الترجمة والطب والفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات الى جانب ازدهار العطاء الفكري وعلوم الحديث والفقه والاجتهاد والتصوّف...
الأمر الأكيد أنّ فسحة طيبة من أجواء الحريَّة، الى جانب سيوف انتهى دورها، وخلفاءٍ زهدوا في الآخرة وعشقوا الدنيا، هي التي أنجبتْ هذا الخليط المتضاد المتوازن، واسهمت اسهاماً عظيماً في انطلاق العقل الجمعي للأمة لكي يبحث ويسأل ويجتهد ويستمتع ويكتشف ويبدع ولا يتوانى عن ملاحقة كلِّ صغيرة وكبيرة في كلِّ شيء، وحول أيِّ شيء بعد أن كسر ثلمةً لا يُستهان بها من حاجز (الممنوعات) والمحظورات، وتمادى في ترفه الفكري، حتى بات طلاب الفقه يُحلِّقون في المسائل وما يعرض عليهم الى آفاق بعيدة، ويسألون عن (النملة) لو اصبح حجمها بحجم الخروف هل أكلها حلال أم حرام؟! وحين أشبعوا السؤال اجتهاداً واختلافاً ولم يتوصلوا الى ما يقنعهم ويُشفي بطرهم ذهبوا الى حلٍّ قائمٍ على الهرب وان كان مغلفاً بالمنطق فقالوا (عندما تصير بحجم الخروف ننظر ما يؤكّل منها وما لا يُؤكل!!)
اليوم وبعد ألف ويزيد من السنوات مضت على ذلك الترف الفكري الذي انتهى اليه المجتمع أصبحنا نمتلك من الحرية الشيء العظيم وما يفوق حاجتنا، ثمَّ هي الحروب وتكميم الأفواه والقادسيات وقد أدبرت الى غير رجعة، فلا بدَّ أنّنا نقف على أبواب الترف الفكري بأرقى حالاته، وستحيط بنا اسئلة ديمقراطية احاطة السوار بالمعصم، وربما نسأل: هل بمقدور البرلمان تشريع قانون يمدد بموجبه بقاءه عشرين سنة من دون انتخابات؟ ويأتي الرد: لا .. لأنّ إحدى فقرات الدستور لا تجيز ذلك.. فنعود لنسأل من باب البطر والترف: أليس بإمكانه تعديل هذه الفقرة؟! وهنا تبدأ المحنة، فاذا منعونا من التمادي في الاسئلة فتلك مصادرة للحرية، واذا تركونا نواصل فسنفتح على أنفسنا أبواب الجحيم، وقد ينتبه البرلمان ويُعدّل عمر دورته من 4 سنوات الى 20 سنة فنلطم خدودنا ندماً، ولذلك أدعو من منبر الصباح الكريم الى وضع قانون يمنع حرية الترف الفكري حفاظاً على ما بَقِيَ في رؤوسنا من عقل!!