الواقعي والمتخيَّل في {نفس} المخرجة نرجس آبيار

الصفحة الاخيرة 2019/06/18
...

 د. عمار إبراهيم الياسري
يتنوع المتخيل البصري ما بين المحاكاة السطحية والعميقة للواقع وما بين الصور الغرائبية والفنتازية، والغرض من كل هذا هو الوصول إلى أشكال بصرية تمتلك من الفرادة والدهشة والإقناع، وهذا هو جوهر السينما منذ انطلاقتها الأولى على يد الاخوة 
لومير.
ومن الأفلام التي اشتغلت على تنوع المتخيل فيلم (نفس) للمخرجة الإيرانية  نرجس آبيار  الفائز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان (ليستاباد) في بيلاروسيا عام
2017.
ينهض المتن الحكائي للفيلم على جزء من حياة الفتاة (بهار) التي تعيش مع والدها المصاب بالربو وجدتها وأخوتها بعد وفاة والدتها، ومن خلال هذه السنوات المتجزئة ندرك أنّها تلميذة متفوقة لها القدرة على قراءة الروايات على الرغم من كونها في بداية سني حياتها الدراسية، تعاني (بهار) من ضغوط سلطوية تنوعت ما بين القمع الأسري والمدرسي والاجتماعي، وهذا مرده المحمولات الفكرية المتوارثة التي تشتغل على مفهوم (بطرياركي) يقوض من الحضور الوجودي للجسد الأنثوي ما يجعل الجسد يبحث عن عوالم متخيلة من اجل الهروب من حيف الاستلاب الذي جعله في غربة وجودية قاحلة، ثم تنتهي حياتها بالموت على اثر سقوط صاروخ على البيت الذي تسكنه ابان الحرب العراقية الإيرانية، ومع بداية الفيلم نلحظ لقطة مصورة من الأعلى للطفلة وهي تدور على نفسها في أرجوحة يتبين لنا من خلالها مقدار الضغط والقلق الذي تعاني منه الشخصية ثم يطالعنا المشهد التأسيسي بلقطة قريبة ليد الطفلة وهي ترسم على الورقة صورة لفتاة في حقل مع صوتها من خارج الكادر (voice over) على وفق تقانة السارد المشارك بالأحداث وهي تكشف لنا جزءاً من أبعاد الشخصيات وعلاقاتهم الاجتماعية (هذه أنا أعيش بالقرب من قرية ولد أباد) ثم يتحول الكادر إلى سواد حالك حينما تذكر أنّ قريتهم خالية من الكهرباء في إحالة دلالية إلى المحيط السوداوي الذي تعيشه البطلة وعلى اثر ذلك تنتقل المخرجة في المشهد الذي يليه في الدقيقة الثانية إلى المشهد المتخيل المصنوع من الكارتون وهي تصف والدتها المتوفاة واخوتها، فالذاكرة هنا لم تسعفها للتذكر لذا استعاضت بالمتخيل الكارتوني من اجل استذكارها بأبهى
صورة.
لم ينفك المتخيل الواقعي عن المتخيل الكارتوني في اغلب مفاصل الفيلم، إذ جعلت منه البطلة معادلاً موضوعياً من اجل كشف أنساق العنف والإقصاء والتهميش، فالجسد الطفولي قد تعرض إلى العنف اللفظي والجسدي من جميع الأنساق السلطوية المحيطة به والتي سعت إلى تقويض كينونته الوجودية، ولو تابعنا الدقيقة السابعة والأربعين في المشهد الذي تعرضت به للتقريع من قبل معلم المدرسة بعد أن وجدها تقرأ في الرواية ومن ثم الضرب من قبل مدير المدرسة نلحظ تمظهر العنف المؤسساتي المرتبط بالمدرسة ما جعل الجسد ينسلخ من حيزه الوجودي نحو المتخيل الكارتوني الذي تماهت معه كما في حكاية (بوداري) الفتاة التي تعرضت إلى الظلم والتقريع حتى مرضت وماتت ولم يستطع الرجل الصالح إنقاذها، إذ نلحظ في المشاهد الكارتونية غلبة اللون الأسود المحيط بالكادر دلالة على الحزن والظلم في حين تم التصوير من زوايا علوية دلالة على الضغط المؤسساتي الذي عانت منه البطلة (بوداري) من قبل المديرة والعصابة، وقد جسدت الرسوم الكارتونية باللون الأسود على خلفية ذات لون كارتوني مصفر يشي بالعتاقة، وهي جميعها معادل موضوعي تعاضد مع الحكاية الحقيقية للفتاة (بهار) من اجل كشف السلطوية القمعية للمؤسسة التربوية، فظلال الظلم لم تنفك عنها حتى في المتخيل 
الكارتوني.
وقد شهد الفيلم تحولات نسقية سلطوية من النسق المدرسي إلى النسق الأسري، فقد عانت (بهار) من الحمولات الفكرية الاقصائية لجدتها التي قامت بضربها كما نلحظ ذلك في الدقيقة الثالثة على الرغم من أنها لم تقم بتمزيق الوسائد، والذي فعل ذلك هو أخوها ، أو كما في الدقيقة الأربعين حينما وجدتها تقرأ في رواية (جنايات البشر)، أو كما في الدقيقة الثالثة والستين حينما تبول أخوها في
فراشه.
ان الحمولات الفكرية الاقصائية للجدة تركت أثرها السلبي على علاقتها مع (بهار)، فالرجل حسب قانونها لا يحاسب وهو صاحب السطوة والقول، في حين تعنف المرأة جسديا ولفظيا سواء أذنبت ام لم تذنب ما جعل الجسد الأنثوي يلجأ إلى المتخيل الكارتوني من اجل التعبير عن امتعاضه ورفضه لهذه السلطات الظالمة، إذ شهدت الدقيقة الحادية والستون أثناء وجود (بهار) في الحمام متخيلا كارتونيا عن فتاة وحيدة تسمى (الوردة الضاحكة) تعيش في غابة موحشة لكنها محبوسة في قبو مع الثعابين، فالفتاة شبهت لنا في متخيلها الكارتوني السلطات بالثعابين ولكنها استطاعت أن تروض الثعابين وتجعلهم أصدقاء لها من خلال المعاملة الطيبة، لنرى أن الإطار الأسود قد تخلله شيء من البياض، لكن لون الرسومات وزوايا الكاميرا المرتفعة بقيت ذاتها كما في نسق التسلط 
المدرسي.
وكما في النسقين السابقين نلحظ أن (الجندر) الأنثوي وقع تحت حيف سلطوي ديني تمثل من خلال نهر الجدة لها عندما تحدثت مع قريبها (طاهر) كما نلحظ ذلك في الدقيقتين الثالثة والخمسين والسابعة والسبعين، لتلجأ إلى قراءة كتاب (داستان- راستان) للشهيد (مطهري) والذي حصلت عليه هو الاخر من مكتبة خالها لنشهد متخيلها الكارتوني هذه المرة عن شخصية إسلامية تدعى (جبير) زوجه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم ) فتاة تدعى (زلفة)، وكم تمنت (بهار) أن تبقى (زلفة) وفية له دون زواج بعد استشهاده، لنستنتج من خلاله أن المتخيل الكارتوني حاول أن يصحح التصور الفكري الخاطئ لدى الجدة من اجل حياة اقرب إلى المحبة والجمال.
وفي النهاية يبقى نسق الحرب هو النسق الذي يمزق كل لوحات أحلامنا، اذ ذوى الجسد المهمش في المشهد الأخير اثر سقوط صاروخ دمار شامل على البيت الذي يقلها ليتدفق من وسط الركام مجرى ماء جرف معه القارب الذي أحبته لأنه هدية تفوقها من معلمتها الطيبة في دلالة على ديمومة الحياة وسط ركام الحروب.