أحمد عساف
افتتح مؤخرا في صالة زوايا بدمشق معرض "يوتوبيا" للفنان التشكيلي مهند السريع بحضور كبير.
وبثقة العاشق المجبول من شغف الانسجام التام مع عالم الفن وقف السريع في معرض يستوقفنا بكل تجلياتها الجمالية والمعرفية عبر تعبيرية تنحاز قليلاً إلى رمزية تتعتق في بوتقة تلك السماكات اللونية المشغولة تارة بعناية فائقة، وبوجع القلب تارة أخرى، وفي الكثير منها ذاك الحنين إلى عالم الطفولة ورائحته الموشومة في خياشم ذكريات لا تنسى.
وعبر 45 لوحة عرضت على جدران الصالة وبمقاييس مختلفة تأخذك اللحظات أمام أفكارها واتساع رؤياها وعمق مداليلها. أعمال لا يمكن المرور عليها بشكل طارئ، لما تحمله من ثقافته الفنية وأبعاده النفسية والمعرفية.
كما تمكنت هذه اللوحات من أن تظهر التكنيك المعرفي العميق لمخزون الذاكرة والثقافة والحياة، واستطاعت أيضا أن تنجو من تأطيرها المعرفي على وفق مناهج النقد الفني "المحلي" الذي لا يواكب تطور اللوحة وأبعاد تأثيرها على المتلقي.
لقد نجح السريع في أن يقدم "يوتوبياه الخاصة به" كما يقول، ونجح أكثر في الذهاب بحلمه إلى عوالم وتشكيلات لونية عبر أبطال وشخوص ينتمون لما يتناغم مع هارموني لوحاته المنتمية لذوات تطحنها الأيام برحى زمن قاس، نعلن فيه عن فرح زائف بينما من الداخل هم مكلومون.
في كل لوحات مهند السريع ثمة توازن في العمل وعمق الأبعاد، وتماسك وانصهار، وانعتاق وتلاحم في الكتل اللونية، وتمازجها وتماهيها مع كتلتها الفنية، حيث المعارف الجديدة لعالم التشكيل السوري الحديث، والذي يتبوأ مجاديفه الفنية مغارف القيادة، إلى شواطئ تتطلب الغوص في عمق العمل الفني.
وثمة لوحات سنلحظ فيها نساء يبحثن عن حبر اليقين في زمن ضالّ ومنهك، وعن كحل العيون في مآق جففها الدمع السجين، وكذلك عن أطفال الحياة وهم مغرمون بغرس مشاتل الفرح المؤجل على جبين فجر مؤجل. كما أطفال غزّة وهم يلهون بحلم موؤود تحت وابل القذائف والدمار والموت الجماعي.
ويعتمد الفنان مهند السريع في مواضيعه على الراهن اليومي، ونبض الشارع وأطفال الأرصفة، وغيرها من أحداث، حتى أطفال غزّة كانت لهم الحصة الأكبر من أعماله. وقد استوحت لوحة "قلبي يطير فرحاً" من موسيقى للفنان محمد فوزي، وهي الموسيقى التي رافقت أيام افتتاح المعرض. كما سنجد أطفال غزّة في لوحة "يلعبون ويمرحون" رغم القصف والدمار، وهي ميزة التفاؤل بانتصار البطولة، حيث رسمت بحس تعبيري رمزي، وبألوّان حارة، تجذب المتلقي وتدعوه لكثير التأمل والتعمق في تصوير المشهد.
وذكر السريع أن "يوتوبيا" هي المدينة الفاضلة لأفلاطون، إذ أردت من خلال العنوان أن أشيد مملكة خاصة بلوحاتي وبأبطالها، مدينة مليئة بالقيم الإنسانيّة والجماليّة، ويكون فيها عالم نظيف خالٍ من الحروب والدمار والضغائن، عالم يشبه أرواح الملائكة والأطفال. يشبه روحي التواقة للبراءة والجمال.
الملفت في المعرض أن المتلقي سيجد ظهورا واضحاً لسكّين بارزة في لوحات الفنان، الذي أكد أن "استخدم السكين غاية في أن يكون للون حضوره وألقه وملمسه على بياض اللوحة، خصوصاً أن بعض اللّوحات تحتاج إلى سماكات لونية لتفصح عن مقولتها الفكريّة والبصريّة والجمالية، ولترتقي إلى الذائقة الجمعية في ذاكرة ووجدان المتلقي. مع ذلك فإن كثيرا ما تعطينا السكين ذاك الإيحاء والاحساس بالوحشية.