خدعة تصادم الحضارات

آراء 2024/12/11
...

 أ.د عامر حسن فياض

بقدر ما تبدو اطروحة الكاتب الامريكي (صموئيل هنتغتون 1927 - 2008) عن تصادم الحضارات لامعه وبراقة، فهي ليست أقل خداعاً من غيرها لأنها ليست سوى النسخة الثقافية لأطروحة (تهديد الجنوب)، فالاختلافات بين الحضارات ظاهرة طبيعية وهي تدخل في دائرة الاختلاف لا الخلاف، وهي ثمرة قرون من التاريخ ولن تختفي في الوقت القريب.


إن التحليل الذي ينحاز لأفكار (هنتغتون) بهذا الشأن يتماشى مع الأهداف الاستراتيجية للغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، بعد نهاية الحرب الباردة تلك الأهداف الرامية لبقاء الاخيرة على رأس (العالم الغربي الحر)، وتوسيعه تحت هيمنتها ليمتد إلى أوروبا الشرقية حتى روسيا مع المحافظة على أمريكا اللاتينية لمنع ظهور أية قوة معارضة في آسيا والشرق الاوسط. وتمتاز هذه الأطروحة بأنها تقدم للبعض قراءة موحدة لجميع الصراعات الجارية في عالمنا المعاصر وخصوصاً بالنسبة لأولئك الذين فقدوا البوصلة، التي كانت تقدمها لهم الحرب الباردة والاختلافات العقائدية والايديولوجية، لذلك فهي بالنسبة لهم بمثابة أطروحة (النعمة المفاجئة)، التي زودتهم من جديد بتبرير شامل يستطيعون أن يفسروا من خلالها الصراعات والحروب الأهلية في دول أوروبا القديمة المتعددة الجنسيات وفي الشرق الاوسط وبحر الصين.
بيد أن أطروحة تصادم الحضارات وبمجرد نشرها واجهت الكثير من الانتقادات، وسجلت عليها الكثير من المآخذ، فالحروب الحقيقية وليست الخيالية جرت عادة في داخل الكتلة الحضارية الواحدة، وليست بين كتلتين حضاريتين متصارعتين، والمسلمون لم يهرعوا لنجدة العراق ولا البوسنة ولا اذربيجان. اما اعتبار مبيعات السلاح الصيني للسعودية أو إيران علامة على وجود ارتباط كونفوشيوسي- إسلامي، فهذا أمر لا يمكن إثبات صحته أمام التجربة والواقع، فهل يمكن الحديث مثلا عن ترابط غربي – إسلامي لأن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا يبيعان السلاح إلى بلدان إسلامية في الشرق الأوسط؟
بالطبع لا، فبيع الأسلحة وفي جميع الأحوال ليس إلا من أجل المحافظة على مجمعات صناعة أسلحة جديدة تسمح للمنتجين باستمرار الحصول على العملات الصعبة، وعليه فإن الأسباب هي، في الحقيقة، اقتصادية (صناعية – تجارية – مالية) واستراتيجية (عسكرية – سياسية)، فالمبيعات لم تكن باسم النضال الحضاري، لأنه لو صح ذلك لكان تقديم الأسلحة تتم بطريقة مجانية أو رمزية، وهو أمر أبعد ما يكون عليه الحال اليوم. واذا كان الصرب والكروات لا يدينون بالدين نفسه فهل يمكن القول بأنهم لا ينتمون إلى الحضارة نفسها، فهم سلاف ولهم اللغة نفسها وعاشوا في القرى نفسها زمناً طويلاً وتعددت بينهم الزيجات.
ولكن الحروب الاهلية والدولية في داخل الحضارة الواحدة واقتتال الأشقاء داخل الدين الواحد وقائع تنسف تحليل هنتغتون من أساسه. وبخصوص الإسلام فإنه يقوم على كتل ثقافية فرعية متنوعة وربما مختلفة، كذلك فإن العالم الكونفوشيوسي ليس موجوداً بالكيفية التي يجري تصويره بها أي ككتلة واحدة. كما يمكن دحض الجانب المتعلق من هذه الأطروحة بالحضارة الإفريقية بدلالة الحروب الأهلية المشتعلة فيها، والتي تجعل من الأثنية/ العرقية العنصر المكون لإفريقيا والأكبر من أي تضامن حضاري. وكذلك الأمر بالنسبة لأمريكا اللاتينية، حيث هشاشة ووهن التضامن الحضاري اللاتيني الأمريكي، فقط المشاعر المعادية للولايات المتحدة الأمريكية كانت هي الشيء الوحيد، الذي استطاع أن يوحد الشعوب في هذه القارة في عقدي الستينيات والسبعينيات، بل إن هذا الطلاء البراق لم يستطع في وقته إخفاء التنافس على قيادة القارة بين البرازيل والارجنتين وتشيلي وبين بوليفيا وتشيلي وبين البيرو والاكوادور. وتتميز أطروحة هنتغتون بطبيعتها الجازمة والقاطعة، حيث تفترض بأن الحضارات ستتصادم حتماً وبالضرورة، وإن هذا التصادم لن تكون له نهاية، بينما على العكس من ذلك يمكننا أن نتصور بأنه حتى الحرب قد تقوم بين حضارتين بسبب اختلافهما، فإنها يمكن أن تتوقف في أية لحظة عندما تقرران وقفها من أجل مصالحهما المشتركة.
وفي الجانب المقابل لهذه الأطروحة تبرر حقائق الجغرافيا السياسية المعاصرة اليوم مفهوم صراع الهويات المستند لا على بناءات نظرية، بل على ملاحظة الصراعات الحقيقية، التي تستخلص منها النتائج العامة، حيث تصبح الهوية الجماعية لجماعة بشرية ما هي الشيء الثابت الوحيد في مواجهة إفرازات الحداثة المدمرة والبؤس الاقتصادي والتفكيك السياسي. فإذا أحست جماعة بشرية ما بأن هويتها مهددة بشكل قد يؤدي إلى زوالها، فستتكون هنا قاعدة صراع الهويات، الذي يستند في أغلب الأحيان إلى الخوف من الزوال. فولادة صراع الهويات تصاحبها أفكار وأوهام يملؤها القلق والخوف من التصفية، لأن الأفراد لا يشعرون بأنهم مهددون بفقدان الأرض فقط، بل ومهددون أيضا بفقدان حقهم في العيش كجماعة لها خصوصيتها. إن صراع الهويات ليس صراعاً متعلقاً بأرض أو سلطة أو مصادر ثروة، بل هو أولا وقبل كل شيء صراع مضمونه ومصدرة الإدراك الجماعي لتهديد يطول الوجود ويهدد استمرار الحياة إنها مشاعر الضحية، التي تسيطر على طريقة التفكير والتحليل الجمعي لدى جماعة بشرية تحس بأنها ضحية وهذا ما تتأسس عليه خصوصية ازمة الهويات، سواء كانت طائفية أو عرقية أو قومية أو خليطاً من الأزمات الثلاث معاً، وعليه فإن أمام الحضارات طريق مفتوح هو طريق الحوار وليس الصراع ولا التصادم.