التعداد.. ثنائية المواطن والعدّاد

آراء 2024/12/16
...

 عبدالزهرة محمد الهنداوي


غاب التعداد طويلاً عن المشهد العراقي، وفي كل مرة يقرر العودة، يطرأ طارئ، يمنعه من تلك العودة، هذا الغياب الطويل، جعل كثيراً من الناس، ينسون ذلك الزائر، المقرر له ان يأتي كل  عشرة أعوام، وآخرون كانوا ينظرون إلى عودته بريبة، وقلق، مأخوذين بـ(نظرية المؤامرة) التي يعشقها العراقيون، ويؤمنون بها إيماناً قاطعاً، ولذلك، عندما اقترب موعد التعداد، وأصبح أمراً واقعاً، بعد مراهنات وكلام كثير من أنه لن يأتي، بدأت  مناسيب القلق تتصاعد بين الناس، وفقاً لنظرية المؤامرة، وساد لغط في الأرجاء، من أن الحكومة تريد من هذا الإجراء، قطع رواتب الرعاية الاجتماعية، ومصادرة الآثاث والأجهزة الكهربائية!!، وفرض المزيد من الضرائب، وبيع بيانات الأسر والأفراد، إلى إسرائيل!!!! وكلام من هذا القبيل، الذي لا يمت للواقع ولا للمنطق  ولا للتعداد بصلة.. ولكن مالبث المشهد أن تغيّر، وتحول اتجاه البوصلة، 180 درجة، فما أن بدأ التعداد يوم 20-11-2024، وسط إجراءات حظر التجوال، حتى فتح الناس أبواب بيوتهم وقلوبهم للعدّادين، مرحبين، وفرحين بهذا الفعل، وانهالت المكالمات بواقع عشرات الآلاف يومياً كان يتلقاها مركز الاتصالات، عبر 240 خطاً خُصصت لتلقي الشكاوى والملاحظات، وبسبب هذا الزخم الهائل من المطالبات، حدث اختناق في استقبال المكالمات، فراح الناس يبحثون عن العدّادين في الأزقة، للظفر بهم، ودعوتهم إلى بيوتهم، كي  يأخذوا بياناتهم، وفي الأثناء، كانت المحافظات تتسابق فيما بينها لإنجاز المهمة، فتقدمت بعضها وتأخرت أخرى، ولكن في النهاية، وصل الكل إلى الهدف، الذي صنعه الجميع، ضمن معادلة متعددة الأطراف والعوامل، ولكن عاملاها الأساسيان، هما العدّادون، والمواطنون، ثم تأتي العوامل المساعدة الأخرى، التي بها  تحقق النجاح، إذ كان العدّادون، يجوبون الأزقة والمحلات والأقضية والنواحي والقرى، لإكمال مهمتهم التي لم تكن سهلة على الإطلاق، يقابل ذلك تلك الاستجابة المذهلة والرائعة للمواطنين والأسر، فمع هذه المعادلة الثنائية، ومع عوامل المساعدة الأخرى، تشكلت صورة ثلاثية أو حتى سباعية الأبعاد، لمشهد غاب عن العراق لأكثر من  ثلاثة عقود، البعد الأول يتمثل بقرار الحكومة، إجراء التعداد، فالقرار لم يكن سهلاً، في ظل الكثير من التحديات التي تكتنف واقعنا، ولذلك كانت الشكوك تحوم في الفضاء حتى اللحظات الأخيرة، قبيل انطلاق التعداد، شكوك مؤداها من أن التعداد لن يمضي!! إلا أن الحكومة كانت عند قرارها، ولم تلتفت للمشككين والخائفين، لأن التعداد كان للتنمية دون سواها، والحكومة التي أعنيها  هنا، هي بجميع مفاصلها، وأذرعها، الأمنية والخدمية والإدارية والقانونية، وزارات وجهات غير مرتبطة بوزارة وحكومات محلية، ووحدات إدارية، وغيرها، وهنا لست بوارد كيل المديح، إنما للتوصيف، وإن كان الفعل والمنجز يستحق الإطراء والمديح، لأن الذي تحقق، مع وجود كل هذه التحديات، يعطي رسالة مفادها أن العراق بخير، ويقف على أرض صلبة، وأن إجراء تعداد سكاني بهذا المستوى من النجاح، إنما يؤسس لمرحلة جديدة مقبلة، عنوانها، وضوح المسارات التنموية، المبنية على دقة البيانات الإحصائية، وهذا أمر افتقدناه طويلاً.