د. عبد الرضا البهادلي
تمثل اللغة العربية وعاء ماسيا أغلى من الذهب لا يصدأ ولا ينضب مهما طال الزمان وتكالبت عليها العدوان. فمذ كنا صغارا لقنا الحروف الشمسية والقمرية وميزنا بين الاثنين، أي تلك الحروف بجملة (ابغ حجك وخف عقيمه)
ثم تدرجنا بالتعلم من الحرف إلى الاسم والفعل وبقيت الكلمة الفصحى محل اعتزازنا قبل أن ندرك هناك عربيزيون عرب يروجون للغات أخرى لهم الصولة والجولة في تسويقها والترويج لتلك المفردات الدخيلة والباهتة، والتي يظن البعض أن من يتكلم بها من علية القوم، وفق المقاسات العصرية، التي ترغب في سلخنا من لغتنا، بل كانت الحملات الكبرى على اللغة، من أجل تقديم العامية بدعوى الشعبوية، وكانت لتلك الدعوات أصوات وأبواق عالية في بعض البلدان ومنها مصر. وظلت العربية تحت حراب المستشرقين من الذين انبهروا من هذه اللغة المعطاء، فانقسموا بين معجب وحاسد لما تحويه هذه اللغة من طاقة ورابطة عالمية باستطاعتها أن توحد المئات من القوميات والآلاف من العرقيات، تحت غطاء تنوع ثقافي ذي ثراء قل نظيره في حضارات الأمم. وتكمن أهمية اللغة العربية للعالم بأنها لغة القرآن الكريم امتازت بالنحت والاشتقاق، فضلا عن ثرائها واثرائها للتنوع الثقافي نسبة للخزين الفكري والمعرفي الكبير الذي تكتنزه، على الرغم من أن الحروف العربية 29 حرفا أو ثمانية وعشرين، بيد أنها منجم من الكلمات الدلالية والمفردات غير المنقطة، فالعربية تضم ملايين الكلمات قابلة للزيادة بفضل النحت اللغوي، الذي يتبعه الاشتقاق أي توليد المفردات الفاعلة، لاسيما أن الأصل يولد فروعا واضحة على سبيل المثال لا الحصر (كتب كتاب كاتب مكتبة مكتب كتيب)، فضلا عن اشتقاق كبير وصغير. وهكذا في معظم المفردات حتى الدخيلة بعبارة العربية حلقة متصلة ومتسلسلة في روعتها، فضلا عن توافق الصورة السمعية مع الصورة الذهنية زيادة على حروف المعاني وحروف المباني فمن الأبجدية إلى الهجائية. ثم النحو والصرف إلى علم البلاغة الذي فتح أبواب المتعة اللغوية وتفاضلت به اللغة على الفن رغم الفارق بينهما. وإن حاولنا اختزال علماء اللغة ومراحل تموضعها في تاريخ الأمة وتراثها لاحتجنا إلى موسوعة تفوق أعدادها أرقام السنين الميلادية، بل ربما إضعاف مضاعفة فبدأ بأبي الاسود الدؤلي والفراهيدي وسيبويه من البصرة الفيحاء والكسائي من الكوفة العصماء ومرورا بالاخافشة والذين عاصروهم وتلوهم في خدمة هذه اللغة الساحرة من أدباء كالجاحظ، وعروجا على تأسيس العلوم والآداب عند الجرجاني ومن بعده السكاكي زيادة على من ترجم لهم من المشتغلين بهذه اللغة والذي تقدر أعدادهم بالآلاف في العصور الوسطى تضع المختص وغير المختص في حالة انبهار، وربما انحياز اجباري لهذه الأعمال الرائعة، التي وصلتنا عنهم ثم حاولت المجامع اللغوية العربية أحياءها في فترة، ربما كان الكثير من البلدان العربية راسخة تحت الهيمنة الاستعمارية. ورغم اللتيا والتي ظلت العربية تتألق ببريقها، حتى أصبحت الفصحى مائدة كل العرب في الإعلام شاء من شاء وأبى من أبى، وعلى الرغم من قبول اللغة العربية في المجموعة الدولية الكبرى، وعدها لغة رسمية سادسة مع اللغات الخمس في الأمم المتحدة( الانكليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية)، حيث اعترف بها بناء على قرار تم في 18/كانون الأول 1973 بيد أن الاحتفال بهذا اليوم جاء متأخراً، لاسيما بعد عزوف الكثير من العرب.. وركن هذه اللغة الحية وعدم التحدث بها، ولد تيارا قويا داخل أروقة الأمم المتحدة لأجل الاستغناء عنها وباعتقادي المتواضع، ربما كان بسبب العربيزيون العرب، من الذين يحاولون التقليل من أهمية هذه اللغة عبر استخدامهم المفردات الانكليزية ونحوها في لغتنا اسهم ذلك في تأخر الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية حتى المنتصف من العقد الأول لهذا القرن أي بعد اكثر من ثلاثين عاما حيث كانت الاحتفاءات الخاصة باللغة قبل ذلك التاريخ خجولة ومتواضعة ولا تمثل وزنا حقيقيا للغة مثل العربية، التي لا تخلو لغة في هذه المعمورة الا وفيها من معينها ما يعرف، فضلا عن أنها لغة ينطق بها ما يقرب من نصف مليار فرد بطلاقة، زيادة عن الكثير ممن يتكلمون بها بدرجة متفاوتة، ربما قريبة من هذا الرقم. ثم يأتي السؤال الكبير، ماذا قدمنا نحن العرب اليوم لهذه اللغة، فقيام التسويق الاوبرالي للمهرجانات والاحتفاء عمل جيد وزيادة مراكز الدراسات الداعمة للغة والثقافة أجود والأجود منه هو تسليط اللغة ومنحها السطوة الاجتماعية والثقافية، وجعلها فطور الصباح للأسر حتى لا تبقى لغة اسيرة الاخبار والمكاتبات الرسمية، وهذه من مهام المجموعات النخبوية، وما يشاكلها من الشرائح الاجتماعية والمجتمعية الأخرى، لأجل إحراز خطوات ناجعة للتحرر من فخ العربيزية وأخواتها غير
المرئية.