علي حمود الحسن
أسى الحروب وظلالها الحزينة، هو محور أحداث فيلم "ما بعد الكارثة" (2019) للمخرج الاميركي جيمس كلنت، الذي يروي الأيام العصيبة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء وهزيمة المانيا ودمار مدنها التي تحولت الى أنقاض تسكنها الاشباح، حيث تشهد مدينة هامبورغ المحطمة قصة حب زوجة ضابط بريطاني، لمهندس معماري الماني أرمل شاركاه السكن في بيته الارستقراطي، وتصارح زوجها باستحالة العيش معه، ثم تغادر البيت بصحبة حبيبها وابنته، لكنها تتراجع عن قرارها في اللحظة التي تهم فيها بالصعود الى القطار وتعود الى زوجها، هذه الحكاية المقتبسة عن رواية بذات الاسم للإنكليزي ريدان بروك، كتب السيناريو لها أنا وترهاوس وجو شرانبل، ومثل فيها جيسون كلاك (العقيد لويس مورغان) وكيرا نايتيلي
(راشيل)، فضلا عن سكار سيغارد بدور المهندس الألماني ستيفان لوبرت، فيما صوره فرانز لاستنج، ووضع موسيقاه التصويرية مارتن فايبز.
اعتمد المخرج بناءً سرديا خطيا في قص حكاية الفيلم، اذ تتشابك مصائر ثلاث شخصيات من ضحايا الحروب، فلويس (جيسون كلاك) يعاني شرخا زوجيا بعد فقدانه ابنه الوحيد في غارة جوية المانية على لندن، لتتسع الهوة بينه وبين زوجته التي انكسر قلبها فراحت تقتفي أثر ذكريات صغيرها، يتشاركان السكن مع مهندس ألماني وابنته (سكار سيغارد) الذي يعاني هو الاخر من فقدان زوجته جراء قصف الحلفاء، اذ يجبر على ترك قصره الفخم ليشغله الضابط البريطاني وزوجته، يستعد لإخلاء الدار، لكن لويس يطلب منه البقاء في المنزل تعاطفا، فمن وجهة نظره "ان هذا الانسان المهذب لا يمكن ان يحتمل ظروف المخيم التعيسة"، تعترض الزوجة وترفض العيش مع عدو، ينشغل زوجها بمهامه ويتركها وحيدة تتناهبها الهواجس في ليالي هامبورغ الباردة، يخبرها ستيفان ان القصر من تصميمه، وهو من اختار وصمم اثاثه، تتودد اليه وتعجب بأناقته وقدرته على العمل وحنوه على ابنته المراهقة، فتغرم به ويجد فيها ملاذا لوحشة روحه، يتطارحان الغرام كحبيبين وليس كعدوين، وهذا بالضبط ما أراده كلنت، فثيمة التسامح تغلف احداث الفيلم، بدءاً من علاقة راشيل بستيفان وحنوها على ابنته، التي ترفض المحتل الإنكليزي وتنتمي لجماعة مقاومة للحلفاء، وانتهاءً بلويس الذي يحاول تجنب العنف ضد الالمان مهما كان الثمن، فالحرب قد انتهت. احالني "ما بعد الكارثة" الى فيلم "صمت البحر" (1942) للمخرج جان بيير ملفيل، فهو يتحدث عن علاقة إشكالية بين ضابط الماني وعجوز فرنسي يعيش مع ابنة أخيه، حيث يرفضان التعامل معه على الرغم من مشاركته السكن معهما، ويواجهانه بالصمت، فليس غير النظرات يتحدث لها عن الشعر والموسيقى وعن حبه لفرنسا ورفضه لاحتلالها، لكنهما لا يتفاعلان معه، يأسرهما بتهذيبه وادبه؛ فهو لا يرتدي الزي العسكري اطلاقا، ولا يدخل لهما قبل ان يطرق الباب، يرفضانه بالصمت يغادرهما خائبا بعد ان أغرم بالفتاة واغرمت به، الفتاة تخسر قلبها وتكسب الوطن، على العكس من فيلم جيمس كلنت فراشيل هي من تغرم بستيفان الألماني (العدو) وترتمي بأحضانه وتقرر الهرب معه وتخبر زوجها الذي يستسلم لخيارها، وهو القادر على قتله او رميه في السجن، هنا تغلب الإنسانية وروح التسامح على التعصب القومي، فالحروب لا تصنعها الشعوب، انما مصالح أصحاب رؤوس الأموال، كل هذا قدمته لنا عدسة المصور فرانز لاستينج بجمال وانسيابية لا سيما مشاهد هامبورغ المهدمة التي نفذها بالأسود والأبيض بلقطات عامة وأخرى قريبة لوجوه ناحلة خرجت من الحرب سهوا، وبذات الجمال صور المشاهد الداخلية بكاميرا رشيقة، وهي تمسح وجوه المحتلين الجذلى بالانتصار، بالتزامن مع لقطات لوجه ستيفان الذي لا يصدق ان بيته محتل وبيانو زوجته المقدس تحت رحمة عسكري بريطاني ثمل. ربما البطل الحقيقي في " ما بعد الكارثة" هو الموسيقى التي اغنت الصورة وامسكت بمسار الاحداث وطورت إيقاعها.