د. عبد العظيم السلطاني
لسببٍ ما، يكتبُ بعضُ الناس مذكراتهم اليوميَّة، وقد ينشرونها للناس. وكلّما كانت حياة الإنسان مكتظة بالأحداث ذات الدلالات والمعاني المهمّة، بسبب فاعليته في الحياة؛ كانت لمذكراته قيمة أكبر. ويبقى مستوى الوعي الثقافي لذلك الإنسان أمراً فاعلا في تلك الأهميَّة، وطول عمره مجلبة لكمٍّ كبيرٍ من الأحداث. ومهما يكن نوع الأحداث المنشورة- مؤلمة أو سارة- ستكون نافعة للقرّاء، وفيها ضوءٌ للأجيال في حاضرها ومستقبلها. فالحياة سلسلة من أحداثٍ متواصلة.
ولكنْ ما وقع المذكرات على نفس كاتبها حين يعود إليها بعد سنوات، وهو دوّنها صادقاً كما هي، وكان يتوخى الدقة ويكره التزييف؟ وما وقع الوثائق على نفسه أيضاً، التي احتفظ بها منذ سنوات وهي ذات صلة بما دونه من مذكرات؟ هنا اجتمعت الوثائق والمذكرات لتدوين الحقيقة، وصارت الذات بمواجهة استرجاع التاريخ.
الإنسان في رحلة قافلة الحياة جزءٌ منها، يلتقي بالصالح والطالح وبالصالحة والطالحة. وهؤلاء جميعاً موجودون في كل المجتمعات وفي كل العصور، وإنْ كانت نسبهم تختلف من مجتمعٍ لآخر، ومن عصرٍ لآخر. والإنسان في رحلة حياته قد يلتقي بأُناسٍ رائعين بنظره، فهم أدخلوا السرور إلى نفسه، وشاركوه بصنع أحداثٍ أفادت ذاته وعملت على نمائها. التقى بالصادقين والموضوعيين والواضحين والطيّبين وذوي العقول النيّرة.. وسجل ذكرياته معهم في حينها، واحتفظ بوثائق تدوّن حقيقة هؤلاء. وحين يستعيدها يشعر بالبهجة وتعيده إلى المكان الذي كان فيه معهم، وترحل به تلك المذكرات والوثائق عبر الزمان، قصر أم بَعُد. ولكن الإنسان نفسه قد يكون التقى- ومن كلا الجنسين- بالحاقدين والانتهازيين وذوي النفوس الوضيعة وبمن يشعرون بالنقص في أعماقهم، والتقى بمَن يجد اتهام الناس حقّاً من حقوقه، وسرقة الناس ضرباً من المهارة. والتقى بالكائدين والكائدات، وبالمتاجرين والمتاجرات بكل شيء، حتى أعطبوا قلبه أو كادوا، وأُتخموا روحه نكَداً، وخلّفوا فيها كدماتٍ وجراحاً.
وإذا كان هذا الإنسان من الذين يهوون التوثيق ويسجلون الأحداث ويحولونها إلى نصوصٍ على الورق، لتكون ذاكرة مستقلة غير الذاكرة الشفاهيَّة، وإذا كان ممّن يسعون إلى الحصول على الوثائق ويحرص على الاحتفاظ بها مع ما سجّل من مذكرات، هنا ستكتمل لديه ذاكرة مستقلة جاهزة، يتسع لها ملفٌّ أو ملفّات. ثم قرر في يومٍ ما أنْ يعودَ إليها ويكتبَ تلك المذكرات مستعيناً بما وثّق، ستأخذه تلك المذكرات إلى الأماكن التي ارتبطت بالتعاسة في ذاكرته وتُحضِر له وجوه الأوغاد من الرجال والنساء، الذين قابلهم في رحلته، وهم سرقوا وقته وأذاقوه طعم الحنظل وحرموه طعم النوم، وأنفق ردحاً من الزمن لتشفى ذاكرته منهم، وليُعيد تصالحاً مع فكرة الحياة وطعم البهجة.
حين يعود ليحرر مذكراته الحافلة بذكرياته معهم، بعد عقدٍ أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، سيشعر بطعم حنظله القديم ذاته الذي ذاقه، وسيُحرم من طعم النوم الذي عانى منه، وستُفتح في نفسه جراحٌ كان قد لأمها بالصبر، أو نسيها مستعيناً بالزمن أو تناساها حتى صارت كالمنسي.. ستُفتح كلّها وقد يعود إلى شعور الخصام مع الحياة، وقد يفقد طعم البهجة ثانية.
كل هذا جائز، بل لعله حقيقة واقعة. ولكنْ ألا تستحق الأجيال بعض تضحية منه لتنفعهم؟ نعم، هذا صحيح. وهذه واحدة من الـ "لكن" التي تدفع بالكتابة دفعاً. ومرّة أخرى نعود إلى "لكن" أخرى، أليست صحة هذا الإنسان أولى وهو يجرُّ السنوات جرَّ المتثاقل بعد أنْ كثُرت؟ نعم، هذا صحيح، أيضاً.
وثمّة "لكن" جديدة أخرى، لا هذه ولا تلك. وهي أنْ تقول: لكن، لو نحّينا هذا الوجع الشخصي حين العودة للمذكرات جانباً وتركنا أمر نفع الأجيال أيضاً، والتفتنا إلى اللغة وهي تدوّن ما حصل، ألا تنفع بأنْ تكون علاجاً للذاكرة الشفاهيَّة، وهي ولا شكّ لم تشف تماماً من بعض ذكرياتها؟ ألا يمكن للغة أنْ تكون أداة للتطهير وتجاوز الألم والحزن حين تدوّن الحزن وتسجّل الألم؟ لعلَّ الأمر كذلك، حين تُكتب الذكريات وتُقرأ الوثائق وتُنشر للناس. وكأنّه والحال هذه يستعين بالقرّاء ليواجه ألم الذكريات، أو قل وكأنّه يشاركهم آلامه وأوجاعه، ويتوازعها معهم فتخفُّ وطأتها عليه.
ومهما كانت الاحتمالات تبقى فكرة "أسطورة العود الأبدي" للكاتب مارسيه إلياد حاضرة، وكلّما أعدنا حكاية الأحداث الماضية أعدنا الأحداث بتفاصيلها وأعدنا ذاتنا حاضرة فيها. وكلّما كانت الأحداث المُستعادة مريرة وقاسية كان طعم المرارة أشدَّ وأقسى، وكلّما كانت تلك الأحداث المريرة كثيرة كانت حطباً كثيراً لجحيمٍ يسعره الإنسان بيديه ليعيش فيه مرّة أخرى، بعد أنْ اِصطَلَى بناره في الواقع قبل سنين خلت.
وهل كانت الكتابة - وهي أعظم مبتكرات الإنسان في رحلته الحضاريَّة - تحملُ بين طياتها مفتاحاً من مفاتيح الجحيم؟ لعلَّها كذلك. هل الذاكرة الشفاهيَّة أقلّ قسوة من الكتابة التي تسجّل التفاصيل ولا تهمل شيئاً؟ أظنّها كذلك. فبعض التفاصيل تسقطُ من الذاكرة، وبسقوطها قد يقلُّ مقدار الألم حين التذّكر. وقد يساعد في بعض النسيان انهماك الإنسان في دوامة العمل ومتطلبات الحياة. أمّا المكتوب من المذكرات والوثائق فيبقى حاضراً بكل تفاصيله وبكل قسوته، ولن يترك للذات أيَّة فرصة للتحايل عليه أو تخفيف وطأته بنسيانٍ أو تناسٍ، لبعض التفاصيل في أقلّ تقدير.
هل ستدخل الجحيم أم أحجمت عن هذا؟ في كلا الحالين أرجو لك السلامة. أمّا أنا ففيّ صوت– أرجو أنْ يزول- يدعوني بإلحاح أنْ أدخلَ الجحيم مرتين.