الاغتراب بين كامو والطيب صالح

ثقافة 2025/01/21
...

  حسن الكعبي  


مجال الإبداع الأدبي والفني ضمن مستوياته الأجناسيَّة (شعراً وسرداً ومسرحاً وسينما وأشكال الفنون الأخرى) يعدُّ من أهم محددات البحث للدراسات النفسيَّة؛ لاتصاله بالعوالم الداخليَّة لشخصياته وموضوعاته، بمعنى أنَّ هذا المجال من أهم المجالات التي تركن إليها الدراسات النفسيَّة في تشخيص عقد حالاتها موضوع التحليل، وقد سبق لسيجموند فرويد أنْ أقام بحوثه وتحليلاته النفسيَّة الملهمة بمعونة روايات دوستويفسكي ولوحات دافنشي، كما أنَّه قارب مفهوم الاغتراب بالارتكاز على هذه الأعمال الفنيَّة الملهمة.

إنَّ الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة التي تصلح لأنْ تكون منطلقاً للدراسات النفسيَّة ومعاينة مفهوم الاغتراب من خلالها، هي كثيرة في هذا السياق، لكنَّ أعمال البير كامو الروائيَّة والطيب صالح السرديَّة، تعدُّ من أفضل النماذج تمثيلاً لهذا النوع من الاغتراب من خلال دراسة نفسيَّة الإنسان المستوحد واغترابه داخل المجتمع كما عند كامو أو ذلك الإنسان المغترب داخل كونه الحضاري كما عند الطيب صالح.

في رواية "الغريب" تناول كامو شخصيَّة ميرسو "الجزائري/ الفرنسي" الذي يعيش حالة من الانشطار في الهويَّة، إضافة إلى عدم قدرته على التصالح مع محيطه الاجتماعي المتعارض مع قيمه ومعتقداته، فميرسو ينبذ المجاملات الاجتماعيَّة التي يعدُّها نوعاً من النفاق الممارس من قبل الغالبيَّة الاجتماعيَّة، وتحت ضغط هذا الرفض "استجابة للأنا المثاليَّة أو الأنا الأعلى بوصفها القوة الأخلاقيَّة في تقسيمات فرويد"، يعيش حالات الاغتراب الاجتماعي من خلال عدم انسجامه مع مجتمعه، الأمر الذي يؤدي به إلى الانعزال والوحدة وبالتالي الاغتراب النفسي الحاد، وقد حظيت هذه الرواية باهتمام عالم النفس "ويز" الذي أقام عليها تصوراته للاغتراب النفسي. إذ يشير "ويز" إلى أنَّ المغترب عن ذاته يرى نفسه كما لو كانت آخر سواه غير واعٍ بما يدور حوله، تنفصل خبراته عن مشاعره وتنفصل مشاعره عن خبراته وضرب على ذلك مثال ميرسو بطل رواية "الغريب" لكامو الذي لا يرى لشيء، أي شيء أهميَّة".

أما رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الطيب فتعدّ من أشهر الروايات العربيَّة في تناول موضوع الاغتراب وقضيَّة العصاب والفصاميَّة، وتدور أحداثها حول مصطفى سعيد الذي يهاجر إلى الشمال كموطن للحضارة والعقلانيَّة وتحقيق الملذات وإثراء الوجود، لكنَّ سعيد يجد نفسه ممزقاً هناك ويجد نفسه عقلاً بلا بروح فينتهي به الأمر إلى ارتكاب جريمة قتل.. وتنتهي الرواية بالتعبير عن يأسه، لكنَّه مع ذلك يشير "أنني أقرر الآن أنني أختار الحياة.. لا يعنيني إنْ كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى.. وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت وكأنني ممثل هزيل يصيح في مسرح: النجدة. النجدة".

صرخة سعيد تحمل دالة رمزيَّة للموت وعدمه والغرق وعدمه، أي لحالة الضياع وعدم القدرة على تفسيره، فكونها تصدر عن ممثلٍ هزيلٍ في مسرح، فهذا يشير إلى طبيعتها التمثيليَّة أي عدم حقيقتها، وكون سعيد في الرواية هو حقيقة عايشت كل الأحداث، فإنَّها توجه النظر إلى رمزيَّة الغرق والضياع والتشظي. 

حظيت هذه الرواية بتشريحٍ نفسيٍ من قبل المفكر جورج طرابيشي الذي يشير إلى "أنَّ مصطفى سعيد لم يكن، على مقاعد مدرسة الحضارة، إلا عقلاً خالصاً، عقلاً تخيل أنَّ الحضارة قابلة لأنْ تضغط وتكثف في أقراص تبتلع ابتلاعاً، اما عن قابليَّة هذه الأقراص للهضم من قبل العضويَّة، واما عن فائدتها الغذائيَّة الحقيقيَّة للجسم، فما دار له في خلد قط أنْ يسأل ويتساءل..".

ولتوضيح طبيعة هذا الصراع بين الروح والعقل واغتراب البطل بينهما يستشهد طرابيشي بموتيفات حواريَّة من الرواية فيشير إلى أنَّ مصطفى سعيد، علاوة على أنه فصامي، مريض بعسر الهضم الحضاري. وتلك هي النتيجة الأخيرة لـ "ذكائه" المعجز. تقول له المسز روبنسن، مشيرة إلى فصامه: "أنت يا مستر سعيد إنسانٌ خالٍ تماماً من المرح. ألا تستطيع أنْ تنسى عقلك أبداً؟". ويقول البروفيسور ماكسويل، ملمحاً الى عسر هضمه الحضاري: "مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل، استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه".

إنَّ الاغتراب النفسي، وموضوع العصاب، يعدُّ من المحاور المركزيَّة في مشروع الطيب صالح السردي فقد سبق له أنْ تناول هذا الموضوع في قصص "نخلة على جدول، وحفنة تمر، وهكذا يا سادتي" ضمن مجموعته القصصيَّة "دومة ود حامد" التي تعدُّ الأساس السردي الذي أقام عليه روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال".