{النص} وإشكاليَّة التحديد التجنيسي

ثقافة 2025/01/21
...

  أحمد الشطري


يزعمُ أتباعُ ما بعد الحداثة أنَّ الفكر الحداثي منظمٌ على أساس سلسلة من الثنائيات: العقلاني وغير العقلاني، والطبيعة والثقافة، والذات والموضوع، والعقل والعاطفة، والمطلق والنسبي، والذكر والأنثى. ويتمثل أحد الجوانب الرئيسة للمشروع ما بعد الحداثي في محاولة إزاحة هذه الثنائيات. بدعوى أنها نتاج خطابات تاريخيَّة، وأنها تشوه وتحدُّ من الفهم. ويسعى المنهج التفكيكي بوصفه واحداً من أهم اتجاهات ما بعد الحداثة، إلى تفكيك هذه الثنائيات وتقويضها، والكشف عن الافتراضات غير المعلنة التي تشكلها، والقيود التي تفرضها على الفكر.

وكان من إحدى نتائج هذه العمليَّة واحدة من أكثر الإشكاليات الاجتماعيَّة متمثلة بإشاعة ظاهرة المثليَّة الجنسيَّة والجنس الثالث.

ورغم أن مصطلح "النص" تعبيرٌ قديمٌ استخدم للإشارة إلى أيّ نسيج لغوي ينتظم في قالب محدد، لكنه أصبح في العصر الحديث "علماً" له قواعده وتنظيراته المختلفة، وفي كتابها "علم النص" تقول جوليا كرستيفا: لقد" تحول النص إلى مجالٍ يُلعب فيه ويُمارَس ويُتَمَثَّل التحويلُ الإبستيمولوجيُّ والاجتماعيُّ والسياسيُّ. فالنص الأدبي خطابٌ يخترق حاليّاً وجْهَ العلمِ والإيديولوجيا والسياسة ويتنطّع لمواجهتها وفتحها وإعادة صهرها. ومن حيث هو خطابٌ متعددٌ ومتمددُ اللسان أحياناً ومتعددُ الأصوات غالباً (من خلال تعدُّد أنماطِ الملفوظات التي يقوم بمفصلتها)، يقوم النص باستحضار كتابة ذلك البلّورِ الذي هو محْمَلُ الدّلاليَّة، المأخوذة في نقطة معينة من لا تَنَاهِيهَا، أيّ كنقطة من التاريخ حيث يلحُّ هذا البعد اللامتناهي".

إلا أنّ مصطلح "النص" بقي لدى كثير من مستخدميه في لغتنا دالًّا عامّاً لا يعني سوى الإشارة إلى نسيج لغوي مدون.

كما أشيع في أدبنا العربي استخدام مصطلح "النص" بمفهومه المعاصر كمتعالية نصيَّة، أو دالّ على نماذج من المنتج الإبداعي سواء بقصديَّة معرفيَّة، أم بقصديَّة اتباعيَّة، أم من دون إيِّ قصديَّة مضمرة؛ لتوصيف ذلك المنتج الإبداعي.

ويمكن أن يكون الغالبيَّة من المبدعين ممن أطلقوا على منتجهم "نصَّاً أو نصوصاً" بقصديَّة العارف وجد في منتجه ممانعة تجنيسيَّة، فتخلى عن سلطته الأبويَّة ليترك للآخر "المتلقي"، أو لذات المُنتَج تحديد جنسه سواء برؤية الآخر "المتلقي" أم بإيحاء المُنتَج ذاته.

هذه العمليَّة تكاد تشابه تلك القوانين التي سنَّتها بعض الدول الغربيَّة، والتي تمنع الأبوين من تحديد جنس أبنائهم من حيث الذكورة والأنوثة، تاركة الخيار للابن في عمليَّة تحديد جنسه.

كما يمكن أيضاً أنْ يكونَ المنتج خليطاً يقعُ تحت تصنيفات مختلفة جمعهما موضوعٌ واحدٌ أو مساراتٌ متوافقة ومتواشجة. بينما يمكن أنْ نشير إلى الصنفين الآخرين الاتّباعي أو اللا قصدي، بأنه نوعٌ من التعميَّة أو التمويه أو اللامعرفيَّة.

وفي إطارٍ آخر ثمة نتاجاتٌ وُسِمَتْ بأنّها "نصٌ مفتوحٌ" كما هو في كتاب خزعل الماجدي "خزائيل"، وكتاب "تاريخ الماء والنساء" لأمير ناصر وعمار كشيش، وغير ذلك مما صنف تحت هذه المتعالية، وقد انطوت هذه النصوص على خليطٍ من النثر "بمختلف موضوعاته" والشعر "بشكلٍ واحدٍ أو أشكالٍ مختلفة"، وأجد أنَّ هذا "النص المفتوح" يمثل نوعاً من النقض للثنائيَّة الضديَّة (الشعر/ النثر)، ويمكن أنْ نعدَّه جنساً ثالثاً، وهو بهذا يتساوق مع طروحات ما بعد الحداثة في نقض الثنائيات الضديَّة. وإنْ حمل تجنيساً معيناً، بيد أنَّ بِنْيته التركيبيَّة تجعل منه منتجاً ممتنعاً عن التوصيف بوصفه يحمل سمات الشعر والنثر في آنٍ واحد.

وتأسيساً على ما أشرنا إليه نجد أنَّ ثمة تساؤلاتٍ يمكن أنْ تُطرح هنا: هل أنّ مصطلح "النص" كدالٍ يمثل مفهوم اللا يقينيَّة التي تشكل إحدى طروحات ما بعد الحداثة؟

وهل أنّ تلك النصوص التي تتمنَّع عن التجنيس أو التي تخلى الأب "المنتج" عن تجنيسها تمثل نوعاً من التشظي أو اللامركزيَّة أو اللا يقينيَّة أيضاً؟

واقعاً يصعبُ الجزمُ بذلك، وإنْ بدا الأمر متماهياً مع هذا الاتجاه، وبعيداً عن إشكاليَّة قصديَّة المنتج، فإنّ الواضح أنّ تلك النتاجات سواء بمتعالياتها أم بما تنطوي عليه من نسيجٍ لغوي تفتح الباب أمام مسارات تأويليَّة متعددة ليس على الصعيد المضموني، بل على الصعيد الشكلي بالنسبة للمحتوى، وعلى الصعيد الدلالي بالنسبة للمتعاليات.

وإذا كان ثمة نسقٌ أخلاقيٌّ أو عقائديٌّ أو اجتماعيٌّ أو فكريٌّ يقفُ حائلاً بين قبول طروحات ما بعد الحداثة لدينا بخصوص ثنائيَّة "الذكر والأنثى"، وما يترتب عليها على وجه الخصوص، إلا أنّ هذا النسق أو هذه الأنساق لا تقف حائلاً بيننا وبين النتاجات الإبداعيَّة أيّاً كان تصنيفها أو ممانعتها عن التصنيف، كونها فعلاً جمالياً ونتاجاً إبداعياً لا يمسُّ القيم الأخلاقيَّة والتكوين الخلقي لنا كمجتمعٍ له ثوابته التي يؤمن بها ويسعى للحفاظ عليها في منظور الغالبيَّة العظمى للمجتمع العربي.

إنّ توصيف المنتج الإبداعي غالباً يتعلق بالشكل الهيكلي للمنتج وبالتقنيات التي نظمت بنيته الداخليَّة، والتي تحمل في مدلولها مقصداً تجنيسياً، بيد أنّ مصطلح "نص أو نصوص" يحمل توصيفاً مموهاً وغير محددٍ وينفتح على دلالات متعددة، وهذا الانفتاح الدلالي هو واحدٌ من فرضيات ما بعد الحداثة – إنْ جاز التوصيف- والتي تؤكد التعدديَّة في الدلالات تبعا لتعدد القراءات.

ومن بين الأمثلة التي يمكن أنْ نشير إليها أيضاً والتي حملت مصطلح "نص أو نصوص" في توصيفها الواعي والقصدي هو كتاب "في نبض العالم" لعبد الزهرة زكي، وهو عبارة عن نصوصٍ حملت في سماتها العامة صفة النثريَّة، ولكنها تحمل في سماتها الخاصة بنيات سرديَّة مثلما تحمل بناءً شعرياً، سواء كان نثراً شعرياً، أم قصيدة نثر. وهذا التداخل الثنائي هو ما جعل من الكتاب ممتنعاً عن أحاديَّة التوصيف أو التصنيف، فجاء التوصيف بأنّها "نصوص"؛ لما يحمله هذا المصطلح من عموميَّة وتعدديَّة في الدلالة. وهو أيضاً ربما يحمل نوعاً من التخلي عن السلطة المركزيَّة للأب.