الكاتبة البوليسية الأشهر في العالم.. أجاثا كريستي في مئوية روايتها “شاهدة إثبات”

باقر صاحب
في أواخر شهر كانون الثاني المنصرم، مرّت 100 سنة على صدور روايتها الشهيرة “ شاهدة اثبات”، المشغولة بتقنية السرد الخادع والمرافعة القانونية السامية. وفي عام 2021 ، كان الاحتفاء بالانطلاقة المئوية لأجاثا لكريستي، ككاتبةٍ روائيةٍ بوليسيةٍ عالمية، بدءاً من روايتها” العلاقة الغامضة في ستيليس” ويقال بحسب معطيات السيرة الذاتية لكريستي، بأنّها المولودة عام 1890 في قريةٍ إنجليزيةٍ نائية، ولم تكمل تعليمها فكانت دراستها متعثرة، لكنّ والدتها التزمت تعليمها القراءة والكتابة،
وكانت تحضّها على الكتابة الروائية. ومن هنا كان رحيل والدتها عام 1926 صدمةً كبيرةً لها. كانت” العلاقة الغامضة في ستيليس” هي ثمرة رهان كريستي مع شقيقتها بأنّها قادرةٌ على كتابة روايةٍ ناجحة.
عايشت أجاثا كريستي الحرب العالمية الأولى بعد التحاقها مع زوجها الضابط آرتشي في الجبهة الفرنسية، وكانت تعمل في قسم الطبابة والتمريض. وعلى الرغم من مآسي الحرب وأهوالها، أصرّت على الخوض الدائم، ولكنّه المتطوّر باستمرار، في عوالم الجريمة والإثارة والغموض. وكانت الصدمة الثانية في حياتها قرار زوجها بالانفصال عنها، عام 1928. ولكنّ صدماتها الحياتية لن تحدّها في أن تصبح الكاتبة البوليسية الأشهر في العالم.
مبيعاتٌ مليارية
منذ انطلاقتها المئوية عام 1921، ولغاية رحيلها عام 1976، تُعدُّ الروائية الأكثر مبيعاً على مستوى العالم، إذ بيع مليار نسخةٍ من رواياتها، وبحسب تقديراتٍ أخرى تصل إلى مليارين، وهي أرقامٌ غير مسبوقة في تاريخ النشر أبداً. تُرجمت رواياتها إلى 130 لغةً في كلّ أنحاء العالم، ولغاية الآن تُشترى حقوق رواياتها، لإعادة طباعتها من جديد، أو تقديمها للسينما، كأحدث أفلام التشويق والإثارة. وكُتب عنها بأنّه “في وقت كانت فيه الرواية البوليسية تعجّ بالمحققين التقليديين وأسرار الجرائم النمطية، جاءت كريستي بشخصيات مثل هيركيول بوارو المحقق البلجيكي ذو الشارب الدقيق”. فقد خلّدته كريستي ليصبح شخصية تحرٍّ عالمية، وظهر في ثلاثٍ وثلاثين روايةٍ من رواياتها وخمسين قصةٍ قصيرةٍ وثلاث مسرحيات، أي بالمُجمل في ستّةٍ وثمانين عملاً إبداعياً لها. كما ابتكرت كريستي العجوز الذكية ميس ماربل، التي تفكّك ألغاز الجرائم بخبراتها المُستمدّة من حياتها العريضة. إنّ الاستثمارات السينمائية المتلاحقة والمتجدّدة، على مدى عقود، لروايات كريستي أسهمت بشكلٍ لايصدّق في زيادة الطبعات الورقية لغالبية الروايات، ومن ثمّ زيادة المبيعات بالأرقام الضخمة التي ذكرناها.
أجاثا كريستي في بغداد
ينبغي أن ننوّه إلى مرحلةٍ مهمةٍ جداً في حياة كريستي وإبداعها البوليسي، وهي إقامتها في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، لقد اكتشفت ميلها إلى التنقيب في الآثار ونبش الماضي. وكان مرشدها السياحي المنقب الآثاري ماكس مالون، الذي أنشأت علاقة عاطفية معه، ومن ثمّ تزوّجا، فقد اهتمّت كريستي بآثار وادي الرافدين، في الجنوب، بآثار أور، والموصل بآثار الحضر والنمرود، ومن رواياتها المستوحاة من العيش في العراق “جريمة في بلاد وادي الرافدين” و” لقاء في بغداد”، ومن ثم توّجتهما برواية” جريمةٌ في قطار الشرق السريع” التي اجتذبت السينمائيين، وتحولت إلى فيلم عام 1974، مثّل فيه كبار نجوم هوليوود آنذاك. كانت كرستي قد أحبّت السكن في دارٍ على الطراز البغدادي مطلّةٍ على نهر دجلة. ومن هنا فهي أحبّت كلَّ شيءٍ في بغداد، ودوّنت يومياتها وانطباعاتها عن بغداد.
الرواية التي كان اسمها” أيادٍ خائنة”
تتبوّأ رواية” شاهدة إثبات “إحدى قمم روايات كريستي، المثيرة والغامضة بأساليب الخداع المتقن فيها، وبالتحولات في المواقف والأدوار.
يكفي أن نعلم بأنّ الرواية التي كان اسمها “ أيادٍ خائنة” تحوّلت إلى مسرحيةٍ عام 1953، وإلى فيلمٍ عام 1957 ، يكفي أنّها تُعرض حالياً كمسرحيةٍ في قاعة بلندن، وهي أشبه بقاعة محاكمة، منذ ثمان سنوات، تنتهي في أيلول من العام الحالي.
في هذه الرواية تعصف كريستي بأفق توقّعات القارئ. القصة تدور مجمل أحداثها في قاعة محاكمة شابٍّ مُدانٍ بقتل أرملةٍ ثريّة، ليس لديه شهود إثباتٍ على دفع التهمة عنه سوى زوجته، فالخادمة ومدبّرة البيت، كانت شهادتها واضحةً ضده. لكن الذي يحبس أنفاس القارئ أنّ زوجة المتّهم تصبح أخطر شاهدٍ ضدّه، إلى الحدّ الذي أيقن الجميع أنّ المدان سيحكم بالإعدام لا محالة. إذ أنكرت وجود المدان في البيت معها ساعة وقوع الجريمة، بل عاد إلى البيت بعد وقوعها.
لكنّ ذلك الإنكار يخفي وراءه خدعةً جهنّميةً، هي أحد ابتكارات كريستي بعبقريتها البوليسية وثقافتها القانونية الواسعة، إذ جعلت الوهم ببراءة المُدان مغروساً عند وكيل الدفاع عنه عبر تصريح الزوجة باعتقادها أنّه لو كانت شاهد الإثبات الوحيد، لما حازت مصداقيّة القضاء والمحلّفين، لا سيّما أنّه لا أحد يثبت أنّه كان في بيته ساعة وقوع الجريمة غيرها.
عالجت كريستي ذلك، بانتحال الزوجة ذاتها صفة امرأةٍ قريبةٍ من محيط المدان، هذه المرأة تجلب رسائل إلى مكتب وكيل الدفاع عن المدان، في الوقت الحرج، الذي ربما في اليوم التالي يصدر حكم الإعدام بحقه.
هذه الرسائل تثبت (خداعاً) بأنّ الزوجة لها علاقةٌ مع عشيق، وتفضح تلك الرسائل، الإنكار المزعوم بأنّها ليست زوجة المدان، وكذلك مؤامرتها لإرسال رأسه الى حبل المشنقة، بالشراكة مع عشيقها المفترض، لا سيّما بعد أن عرف الاثنان بأنّ الأرملة الثرية القتيلة، أوصت بثروتها إلى المدان.
عند عرض تلك الرسائل تهتزّ قاعة المحكمة، لأن ذلك يعني براءة المتهم، والحكم لاحقاً على الزوجة بالسجن لإدلائها بشهادة زور. وهنا يحدث التطور الدراماتيكي الأكبر، مواجهة صاعقة بين وكيل الدفاع والزوجة، حيث يدرك أنّها هي صاحبة الرسائل نفسها، واستخدمت تلك الخدعة الجهنمية لإنقاذ زوجها المذنب وليس البريء، كما تقول هي.
حين تقترب فتاةٌ شقراء من المدان الذي أصبح بريئاً، ومالك ثروة، تهنئّه وتفرح بأنّها سيعيشان حياةً سعيدة. تُجنُّ الزوجة لذلك، وتقدم على طعن زوجها القاتل توّاً في الحال، لأنّها تطوعت أن تضحّي بنفسها حتى لو تطلّب الأمر قضاء السنين القادمة في السجن، في سبيل براءة زوجها الذي خانها وكان جزاؤه الموت، وإذ ذاك تقدّمت للقاضي مردّدةً بطريقةٍ مسرحية: إنني مذنبةٌ يا سيدي القاضي.
هي ليست روايةً بوليسيةً فحسب، إنّها درسٌ في فهم النوازع البشرية المتناقضة، أمن أجل الحبّ وحده تستخدم الزوجة حيلاً شيطانيةً في سبيل تبرئة زوجها القاتل، أم من أجل الثروة المُنتظرة؟ وكانت النتيجة الخسران المبين بطعنها الزوج القاتل الخائن، ومن ثمّ مصيرها الإعدام بجريمة قتل زوجها، الذي يريد استبدالها بفتاةٍ أصغر منها، كي يجولا، مع التمتّع بالثروة ، حول العالم. غرابة وقائع الرواية تحاكي غرابة واقعنا، منذ عشرات السنين، فالبريء يتحول إلى مجرم، والمجرم نفسه يتحول إلى ضحية.
ليس جزافاً أن يجري الاحتفاء بالذكرى المئوية لصدور الرواية، لأنّها تُعدُّ من طلائع روايات كرستي، فقد صدرت بعد أربعة أعوام من انطلاقتها الروائية الأولى، ومع ذلك حملت بصمةً أقوى المرافعات القضائية في الأدب العالمي.