الإقامة مع كاتبة على الحافة

جاكلين سلام
حافة عالم التماثيل
سقطت قذائف جمّة في ساحة الرئيس عند الصباح وكان الخراب غزيراً. خرج المواطن سين إلى الشارع ليشتري الخبز والزعتر وما يلزم. خرج الأولاد يتفقدون أرض الملعب. بقي التمثال واقفاً في الساحة. خرج كاتب سوري -لا يريد ذكر اسمه - كي يشتري علبة سجائر من شاعر سوري مُقّعد - يتحفظ على ذكر اسمه- يجلس في ركنٍ من أحياء دمشق يراقب ما تساقط حوله من قذائف وينظر بسخطٍ إلى التمثال المنتصب. شرب الكاتب السوري الشاي بلا سكّر مع الشاعر السوري المقعد وتحدثا عن دور الثقافة في تحرير الرؤوس من الأصنام والأفكار الموروثة، تحدثا عن النساء والبطاطا وأسعار العملات وكل شيء ما عدا القذائف التي سقطت والتي سوف تسقط.
تابع الكاتب السوري الطريق وهو يصفّرُ لحناً وطنياً ويقفز فوق كتلات الحديد والإسمنت المتراكم.
مرّ بتمثال آخر وآخر. رفع عينيه ويديه إلى الأعلى بشكوى صامتة.
سقطت صواريخ ومتفجرات أخرى. ركض وهو يشتم. صوت الانفجارات والسقوط أعلى من صوت الكاتب والشاعر.
وصل السوري في اليوم التالي إلى موعده مع مقاول العقارات ليستأجر بيتاً لأولاده وزوجته.
سقطت متفجرات على البيت. أشعل سيجارة وأغمض عينيه ليكتب نشيداً سورياً يرتقي إلى هذا الحد من السقوط. تمتم في قلبه: عزيزي الله، رفعنا رأسنا إلى السماء وقلنا، البيت السوري يبلغك السلام ويقول لك: باقون هنا بانتظار الفيزا أو تأشيرة عبور إلى ملكوتك، أو خاتمة الخلاص الخرافية.
امتدت يد تمثال ضخم -تمثال الرئيس -إلى فم السوري وصوت من الخرابة يقول: أتشتكي حالك، أيها الفرد الجاحد، ألم تتعلم حكمة أيوب؟
صرخ مذعوراً وتجمّد في مكانه. نظر إلى الشرفة المقابلة.. رأى امرأة تلوح له وترمي أوراقاً وكتاباً وتختفي.
صار الكاتب لاجئاً في دولة مجاورة. تابع التدخين على الشرفة فتلوح له تلك المرأة ويلعن خوفه على أنه لم يتنقذ كتابها والأوراق المتناثرة بين الأنقاض.
سمع بذهول ونشوة ذات مساء في نشرة الأخبار خبر سقوط التمثال وشاهد أفراح ما بعد السقوط.
كلما أغمض عينيه يرى تمثالاً ضخماً في المكان ذاته بذقنٍ طويلٍ يصل إلى مستوى الركبتين لكنه ينجح في طرد صورة التمثال المنتصب كالعصا الغليظة في رأسه ليتخيل تلك المرأة التي كانت على الشرفة البعيدة ويحاول الانسجام.
حافة الحرب المضمرة
قلتُ: الكتابة أنقذتني من الجحيم. الكتابة جحيم مستعاد ما بين الصور والسطور، وقلت: كان مخترع المحبرة يحبني من دون وعدٍ بأي شيء، تباً للذكاء الاصطناعي لم يتغلب بعد على عاطفتني الذكية.
قال: ألا تفكرين بعملية جراحية للتخلص من التجاعيد ومن الوزن الزائد؟
قال: هل هناك عشاء طازج الليلة؟ قلتُ: إنهم يحضرون لوجبة نووية وحروب أخرى، عليك يالانتظار أو الاستمتاع بشتاء كندا الطويل.
قال: أنا ذاهب إلى كوبا في رحلة سياحية لاسبوعين. الشمس هنا كئيبة والشتاء ثقيل مثلك وأحزان هذا الكوكب. دعوتك مرات للسفر معي لكنك تأخذين الكتابة حجة للاعتذار. يبدو أنك تحبين الغرق في الجحيم والخيال. كيف أحببكِ ولماذا.. لا أدري...
قلتُ: كن كريماً، ولا تقتّر بالخشيش للنادلات والعاملات في الخدمة العامة في مطاعم كوبا. إنهن فقيرات واحضر لي هدية معك رأس غيفارا محفوراً على الخشب إذا عدّتَ إلى بيتي.
قال: العيش مستحيل مع كاتبة على هذه الحافة.
قلتُ: خذ القمامة معك وأنت خارج.
حافة موت القارئ
قلتُ: في الرأس ألوانٌ عديدة اخترتُ منها ما يشبه رغبتكَ بي ورسمت عليكَ خريطة حلم أكبر من الفضول وأعمق من الرغبة وأحرّ من الأشواق. رسمت ما لا أعرفه عنك ورميت كل ذلك في الحاوية.
رسمت روحي إلى جوارك والكثير من الدوائر التي ضاقت علينا وضاقت بنا.
كنتَ ترسم امرأة لا تشبهني وعليها تعلق يأسك وعشقك وضياعك بين أصابعي منذ التقينا في جوف الحكاية التي قرأناها وناقشنا مصير الأبطال ولم تعجبنا الخاتمة. أنت اقترحتَ موت البطلة، وأنا اقترحتُ موت القارئ الخائن لنفسه.
قلتُ: أنتَ معجب بالبطلة لأنها تجاوزتك وتفضّلُ موتها لأنك عاجز عن الاعتراف بنواقصكَ وازدواج معاييرك.
قلتَ: أنا أحب كتب التاريخ والسيرة الذاتية. أنتن النساء مغرمات بالرومنسيات التي لا تبني وطناً. الثورات بحاجة إلى صوتٍ عريضٍ واضحٍ وخالٍ من الشعرية.
قلت: ماذا أفعل إذا كانت كل النماذج التي في مخيلتي غير مطابقة لشهواتك ونظرتك الأفقية...
ساد صمت...
وحين وصل إلى هذه الفقرة قرأها بصوتٍ مسموع: ولدٌ يركض بين الخرائب خلف الفرح، حافٍ وفي قدمه شظية.
رمى مسودة الكتاب أرضاً وخرج يدخن سيجارة على الشرفة في درجة حرارة ناقص 20 درجة مئوية.
قلتُ: لا تكن عبداً لأوجاعك وإخفاقات أحلامك في الحب والحرب وما بينهما. لم يسمعني، كان يصوب نظراته إلى امرأة في شرفة ليست بعيدة.
حافات مهجريَّة
نجا الرجل من الموت في بلاده بعد أنْ شارك كجنديٍ صامتٍ في حربٍ لم تجعل منه ضحيَّة كاملة. شاهد أكبر عددٍ من الجثث في سنوات الخدمة العسكريَّة وصار شعره أبيض قبل أنْ يتساقطَ على دفعاتٍ خلال جولات قصف متعاقبة. كان يقرأ في الاستراحة بين معركتين كتابه الوحيد وهو يضع سلاحه إلى جواره ويناجي الرب همساً. نجا الرجل ثانية من الإقامة شهوراً بين المشردين في مدينة مهجريَّة وصل إليها بموجب اتفاقية حماية اللاجئين إلى الحياة الآمنة. فقد المتعة بكل مستوياتها حتى متعة الأكل. صعد ذات ليلٍ إلى شقته في الطابق العاشر ليمارس إدمانه على لعبة “المزرعة السعيدة “ التي يعدُّها حلالاً بموجب فتوى أحد الشيوخ. لا يهمه الزمن والسنوات التي ولّت وهي يتقدم في كل مستويات الألعاب الالكترونية. كان يغفو ويده على شاشة (الأيباد) يتابع ألعابه الفضائية وينتصر فيها على كائنات لا مرئية.
قفز مرة مذعوارً من غفوته ويده على الشاشة. خُيل إليه أنه يسمع أصواتاً غريبة وإطلاق نارٍ وصوت صفارات الإنذار الخاص بالحريق في البناية. خرج إلى الشرفة نصف نائم وحالم. سمع صوتاً غريباً يناديه. نظر الى السنجاب الذي يتسلق الشرفات. رأى غراباً يحلق على مقربة وينعق. قفز عن الشرفة وهو يقلد الغراب في التحليق.
كانت امرأة على الشرفة المجاورة تنتظر رؤيته حين يخرج لتدخين السجائر على الشرفة صيفاً وشتاءً. هي تدخّنُ وتحكي قصصها عن اغتصابها وعذاباتها لنفسها وللثلوج والشمس. حصلت على جنسية جديدة وانتهى بها المطاف إلى جلسات مع إخصائي الاستشارات السايكولوجيَّة لمناقشة وتحليل أسباب الاشتباك الذي يحدث في رأسها مع كائنات لا تنام ولا تسمح لها بالنزول إلى الشارع العام للعيش في هذا المكان-الآخر بسلام. لاحظت غياب شريكها في التدخين في الجهة الأخرى. ذات صباح، وجدوا تحت شرفتها حفرة كبيرة وقصاصات أوراق متناثرة في الحديقة. وتابع الثلج سقوطه الناعم وتابعت لجنة التحقيق تقصي أسباب السقوط، هل كان انتحاراً أم محاولة يائسة في التحليق.
انقضى فصل الشتاء وعادت الكاتبة من الشرفة بعد تأمل شروق الشمس إلى طاولة الكتابة وضعت سطورها الأخيرة: علاج الشعور بالخيبة، جرعة من اللعب المرح والتخلي. عزيزي القارئ، اعطني عقلك، اعطني يدك... هيا بنا إلى الحديقة السعيدة قبل أنْ تصبحَ ممنوعة على الرجال والنساء في الفصل القادم.