(العلاقة بين الطبيعة البشرية والروبوت)

ثقافة 2025/02/19
...

ميثم الخزرجي 

إن الجدل المعرفي الذي تشكّل حيال السؤال الأخلاقي في هذا الأوان المعلوماتي، هو كيفية منح الآلة الذكية أو الروبوت صاحب العقل البرمجي وكالة أخلاقية مطلقة، ليكون بمصاف البشر من حيث التعامل مع مقررات الواقع والاستفهامات التي تعنى بالحياة والمصير، أو نهبه بعضا من هذه السمات بحسب الحاجة الفعلية التي تمكّن التقانات البرامجية بعموميتها من إداء مهمة معينة تتصل قيميا مع الآخر البشري؟ وقد عبّر وينديل فالاخ وكولين ألين بخصوص هذا الشأن بــــ “القواعد الأخلاقية الوظيفية” التي تسعى إلى تخصيص جزء من المزايا الأخلاقية المتوائمة مع طبيعة الوظيفة المناطة بها، وهذا الرأي قابل للمناقشة من الناحية الإجرائية والعملية لو تم الأخذ به، إذ إن تفصيل الصفات الأخلاقية لأية آلة تقنية ذكية تؤدي وظيفة معينة مستقلة، يخضع لاعتبارات إنسانية ونفسية بل اجتماعية أيضا، فالسيارة ذاتية القيادة تختلف اختلافا كليا عن أجهزة الرادار أو كلب البحث صاحب العقل الذكي، وهنا لا أقصد من حيث نوعية الخدمة التي تقدمها للكائن البشري فقط، ولكن من ناحية المنظومة المفاهيمية ونسبة الاستجابة التي على أساسها تستوعب حاجة الآخر، وهل يحق لنا أن نهب هذه السمات، أم هو كائن آلي في حقيقته يسير على وفق شيفرة برمجية لا تخضع لأي اعتبارات إنسانية، مثل الانفعالات أو السلوك أو طريقة التعاطي مع الخطر؟. وفي حال أقرَّ بإعطاء الآلة الاصطناعية وكالة أخلاقية مطلقة، هل تخضع للنظام الوضعي والقوانين العرفية والسياسية التي تسن من قبل الدولة، فضلا عن السياقات الاجتماعية والتوجهات الفكرية والإيديولوجية، أم هي معادلة رياضياتية خارجة عن هذا التصنيف؟. ولعلي أجد أن ثمة إشكالية أخرى تستجد إزاء هذا الطرح، لكونها سوف تتفوق بمراحل علمية وقيمية على الكائن البشري، بسبب امتلاكها العقل الذكي والمسوّغ الأخلاقي في آن واحد؟ لكن بودي أن أتوقف عند كنه هذه الخدمة التي تقدمها الآلة الذكية وأحقية إيفائها للغرض؟ وهل بالضرورة أن تُكرس لهذه الآلة وكالة أخلاقية تامة أو مجتزأة، في حال ارتباطها بقواعد برمجية تنفيذية غايتها تسهيل العقبات وتذليلها؟ بل هل يتوجب عليها أن ترتبط بسمات أخلاقية تكون ماهيتها متفقة مع الكائن البشري؟.

 ما هي طبيعة العلاقة التي تنتج بين فاعلية السمة الأخلاقية التي منحت للكائن الذكي، وبين المدركات الحسية والشعورية للإنسان؟ وهل تتوجب محاسبة الآلة الذكية لو تمتعت بسمات أخلاقية كلية أو ضمنية؟ وهل من الممكن أن تتعرض للخطأ أو التوهان أو الغفلة لو عيّن لها عقل برمجي ذكي تسير عليه؟ وهل ينجم معيار الخطأ عن امتلاكها وكالة أخلاقية، بل أية أمارة إنسانية بشرية ناتجة عن المشاعر الجوانية التي تشترك العاطفة بها؟ ولماذا هذا الإصرار على منح الآلة الذكية وكالة أخلاقية؟ هل ثمة محاولة جادة لاستنساخ العقل البايولوجي البشري إمعانا للانفجار التقاني الذي يولده الذكاء الاصطناعي؟ لماذا هذا التخوف من الآلة الذكية في حال تضمنت مساحة تفوق الكائن البشري من حيث الرؤية والتصرف والقدرة الذهنية والبدنية (المادية)؟ هل يفكر الأخير باستلاب جوهره وتجرّده من الحياة لو اتخذ الروبوت إمكانية حرة تتعدى كنه الإنسان وحقيقته؟ وهل ثمة صفات أخلاقية برمجية مقننة تتفق مع طبيعة العلاقة بين البشري والآلي، وما هو منسوب المضامين البشرية مثل الخير والشر والشجاعة والكره والاختلاجات الذهنية والشعورية الجوانية، بل أية صفة إنسانية أو أخلاقية تخصص للروبوت أو الكائن التقاني الذكي؟.

حقيقة الأمر، علينا أن نؤمن إيمانا مطلقا، بأن التحديات النفسية التي يواجهها الإنسان حيال الانقلاب المعلوماتي المهول، وما نتج عنه من تصدر الآلة الذكية، أثّرت تأثيرا واضحا في طريقة تعامله مع الموجودات من حيث اللغة والمنهج والعلاقة التي تستقرئ نظامه الثقافي والمعرفي، على الرغم من أن (جوانا برايسون) الأستاذة المشاركة في قسم الحاسوب/جامعة باث تقول: “ إن الروبوتات هي أدوات وممتلكات، وليست لدينا أي التزامات اتجاهها”، ما معناه، أن الآلة الذكية مادية علمية غير عضوية، أي ليست بشرية ولا نملك ارتباطا أخلاقيا يعنى بتمثلاتها على أرض الواقع، وإن كانت تمتلك حالة من حالات الوعي حيال أي  معضلة تظهر لها، فإنها تتصرف على وفق برنامج ذكي يخص هذه المعضلة التي نسعى إلى حلها، لكن هناك مسألة غاية في الأهمية؛ هي هل الطبيعة البشرية هي المحرّض الرئيسي الذي يعزز مكانة الروبوت الأخلاقية، أم تتحقق هذه المكانة بالتتابع على وفق مراحل تعنى بجوهر الخدمة المقدمة من قبل الآلة الذكية نفسها؟. ولعلي أجد أن النظرة المتبعة للكائن البشري تختلف بين آلة ذكية وأخرى، لذا فإن القيمة الاعتبارية المدخرة لديه من المفترض ألاّ تكون  على مستوى واحد، ومما لا شك فيه أن هذا التفاوت في الحاجة التي يرومها الإنسان سيخلق منحيين، الأول، المقياس أو درجة الأهمية التي تعنى بالآلة نفسها، والثاني، الرؤية الخاصة بالإنسان قبالة نوع الخدمة التي تقدمها الآلة ومدى تأثيرها فيه.

إن المكانة الأخلاقية التي يعتمدها إنسان هذا العالم، تأتي على وفق نظام ثقافي واجتماعي، تُهيأ وحدته العضوية من حيث السياق الذي يتعامل به مع الكائنات الحية، إن كانت بشرية أو حيوانية، ولعلها نباتية أيضا، لذا فإن ماهية انتخاب النبتة أو الحيوان في المنزل من حيث التربية أو المرافقة لها أبعادها النفسية، فلو كانت الاعتبارية القيمية المعنية بالكائن البشري بالنسبة للحيوان - على سبيل المثال - نظرة مجردة لا تنم عن وعي بماهية الحيوان وكينونته التي لأجلها انتقاه، لكان عبارة عن أداة لهو أو سد فراغ ليس إلا، بل حتى مزاولته للفعل الثقافي أو ممارسة الرياضة على اختلاف مساراتها، لها مدلولاتها النسقية ومقرراتها النفسية والوجودية، وقد ينتج هذا إحساسا في ما بعد باستحداث مكانة أخلاقية من دون نية مبيتة تتعين عن طريق الدربة أو المزاولة كفعل يومي، فتكون ثمة حاجة فطرية أو عفوية باستطاعتها أن تشعره بأنه حيّ - المعنى الجوهري للحياة - أو موجود في هذا العالم، بل تجده متزنا حيال اقترانه بهذه الكائنات أو الأفعال، وهنا سوف يتشكل نظام حياتي من غير الممكن الانسحاب من طقسه بل يصعب التنازل عنه، وهذا ما ألاحظه مماثلا ومشابها لطبيعة الآلة الذكية، التي تقيّم وتعتمد مشروعيتها من الصلة الجوهرية التي تقدمها للكائن البشري، لترتبط معه ارتباطا سوسيولوجيا بل حتى نفسيا، يؤثر في سياقه العام بكيفية التعاطي مع مجريات الحياة.