الداء الهولندي في العراق

آراء 2025/02/20
...

 نرمين المفتي 

 

تابعت حوارا مطولا مع الدكتور الجيولوجي (فاروق القاسم) الذي يتعامل معه النرويج ملكا وحكومة وشعبا بتقدير عال لأنهم يعتبرونه سببا في ثراء النرويج ورفاهية شعبه، ليس لمساهمته فقط في اكتشاف النفط على عمق الساحل النرويجي في بحر الشمال، إنما كان مسؤولا عن ادارة الإيرادات التي تأتي من النفط ونجح في ابعاد النرويج عن الاصابة ب(الداء الهولندي)، وساهم بإنشاء واحد من أكبر الصناديق السيادية والتي تعتبر ثروة للأجيال القادمة وكان شعاره (الثروة وسيلة للفائدة)، ويقصد بالفائدة الاستثمار بالبنى التحتية كالمدارس والجامعات الرصينة والمستشفيات الممتازة وبيئة نظيفة وصناعة وزراعة متميزتين. وكان نجاحه الكبير سببا ايضا ان يكون استشاريا في كيفية ادارة الإيرادات للعديد من الدول ومن بينها عربية. وشعرت بأسى كبير أن لا تستعين به الحكومات العراقية المتعاقبة للمساعدة في كيفية ادارة الموارد النفطية وإبعاد البلد عن الداء الهولندي والذي من نتائجه الفساد، علما أنه شخصية معروفة في وزارة النفط، لكونه سابقا يعمل في شركة نفط العراق حتى بداية سبعينيات القرن الماضي.. توقفت عند (الداء الهولندي) والذي كتبت عنه مجلة الإيكونوميست في 1977 بسبب ما حدث في هولندا من خلل في التعامل مع الايرادات العالية، التي اصبحت تدخل اليها بعد اكتشاف الغاز في نهاية الخمسينيات. تصف الموسوعات هذا الداء بأنه مصطلح اقتصادي يشير إلى الظاهرة التي تحدث عندما يؤدي اكتشاف موارد طبيعية جديدة، مثل النفط أو الغاز، إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية، مما يضر بالقطاعات الأخرى غير المرتبطة بالموارد الطبيعية، مثل الصناعة والزراعة. ظهر هذا المصطلح لأول مرة في السبعينيات لوصف ما حدث للاقتصاد الهولندي بعد اكتشاف حقول الغاز الطبيعي في بحر الشمال في الستينيات، مما أدى إلى انخفاض تنافسية القطاعات الأخرى في البلاد. ويبدو أن العراق، حاول ومن خلال مجلس الإعمار في بداية خمسينيات القرن الماضي وقبل ابتكار مصطلح (الداء الهولندي) أن يبتعد عن الاعتماد على الإيرادات النفطية لوحدها والابتعاد عن مظاهر ثراء أو رفاهية هشة غير حقيقية من خلال تطوير البنى التحتية والزراعة وإنشاء المصانع المختلفة ولكن دائما كانت هناك احداث وانقلابات اثرت عليها، فضلا عن خلل في التخطيط الاقتصادي والذي أصيب بضعف كبير منذ منتصف الثمانينات حتى نيسان 2003 والأسباب معروفة من حروب عبثية وحصار. ليس العراق لوحده من يعاني من هذاء الداء، فهناك أمثلة عن دول نفطية مثل نيجيريا وفنزويلا وأمثلة أخرى عن نجاح دول نفطية، حصنت نفسها ضد هذا الداء وأصبحت نسبة اعتمادها على ايرادات النفط أقل من نسبة ايراداتها الاخرى الصناعية والزراعية والعلمية والسياحية. 

يعاني العراق من الداء الهولندي إلى حد كبير، حيث يعتمد اقتصاده بشكل شبه كلي على قطاع النفط، مما أدى إلى تهميش القطاعات الأخرى مثل الزراعة والصناعة والخدمات، فهناك مؤشرات عدة تثبت ان النفط يشكل أكثر من 90 بالمئة من الإيرادات الحكومية وأكثر من 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي مما يجعل الاقتصاد العراقي هشًّا أمام تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية، كما حدث في الأزمات المالية التي شهدها العراق عندما انخفضت أسعار النفط. وبسبب تركيز الاستثمارات على قطاع النفط، تراجعت فرص العمل في القطاعات الأخرى، ما أدى إلى ارتفاع البطالة، خاصة بين الشباب. واسهم غياب تنويع مصادر الدخل في زيادة الفساد المالي والإداري، وكما اسلفت، فان اعتماد الحكومة على النفط لتمويل الرواتب والمشاريع، يجعل الاقتصاد غير مستدام وانفاق حكومي غير مستدام ايضا. والسؤال: كيف معالجة العراق من الداء الهولندي؟ والجواب في تنويع الاقتصاد من خلال الاستثمار في الصناعة، الزراعة، والسياحة، تشجيع القطاع الخاص وتقليل الاعتماد على التوظيف الحكومي، وإصلاح النظام المالي وتطوير سياسات نقدية تدعم استقرار العملة وإنشاء صندوق سيادي لاستثمار الفوائض النفطية في مشاريع تنموية مستدامة.