استعمار العقل

آراء 2025/02/20
...

 طالب سعدون


لم يكن امام العالم وبالذات (النائم ) و(تلك صفة مناسبة لهذا الصنف من البشر على كوكب الارض) في هذه الألفية والمقبلة سوى طريق واحد لا ثانٍ له هو التقدم فقط، وما عداه يكونون مستعبدين مستعمرين من بعد، وإن لم يكن استعمارا بجيوش على الأرض من دول أخرى أو وجود مندوب سام أو حاكم أجنبي يدير البلاد نيابة عن المستعمر.

الشعوب النامية (وقد قل استخدام هذا المصطلح ويكاد يكون اختفى) لم يعد تسمية مناسبة لهذا الصنف من البشر.. بل هي في واقعها اليوم اصبحت شعوبا مستعمرة بالتكنولوجيا وبالذات الرقمية. هي أخطر انواع الاستعمار لانها تستهدف جوهر الانسان وهو العقل وتشل حركته وتبعده عن عمله وتجعله منقادا للغير طواعية. كانت الأرض في ما مضى هي المستهدفه، فتقطع الجيوش المسافات وتعبر البحار والمحيطات لتحط فيها وباحتلالها يكون كل شيء قد سقط، لكن اليوم المحتل تراه معها في البيت والعمل يمكن أن يحضر بضغطة بسيطة على ( الزر) أو (الريموت ) على الفور، فيسقط العقل أولا وبعدها ياتي كل شيء براحة ويسر. ببساطة بسقوط العقل واحتلاله تتغير الأرض و الشوارع والأسماء واللغات والماكولات وتضعف اللغة واللهجة والاسماء والمعالم وترنيمة الامهات التي لم يعد يفهمها الأطفال فهم احتلوا وان لم يبلغوا الحلم. قالها محمد عبده من زمان صراحة ( اما ان نتقدم واما ان نستبعد).. والاستعباد يأخذ اشكالا حسب الزمان والمكان.

 ربما كانت نبوءة عالم.. ها هي الثورة الرقمية، تحولت العقول مع هذه الثورة إلى ( مستعمرات رقمية) تديرها منصات ووسائل رقمية كثيرة تحرك العالم كله ( بالريموت كونترول ) اختلط فيها الجد والهزل والحقيقة والخيال والكذب والصدق.. وأصبحت الدول تلجأ اليها للسرعة بدلا من أن تلجأ للطرق الرسمية والدبلوماسية، فضاء مفتوح للجميع دون ضوابط تتصارع فيه الاراء والضحية المواطن. كانت الشعوب تواجه الجيوش العسكرية فقط.. واليوم تغير الحال اتحد المال والسياسة في السيطرة فما اخطر هذه الثنائية، افكار جهنمية مغلفة بغطاء العصرو(الحقيقة والواقعية). وأصبحت الشعوب وهي موزعة بين القارات ( مستعمرة كلها) عن بعد بالثورة الرقمية ولكن بتفاوت. وبمعادلة بسيطة يتبين كم هي بسيطة نسبة مساهمة عالمنا الثالث وبالذات العربي في هذه الثورة رغم وجود الاموال والثروات؟ نسبة بسيطة جدا تكاد لا تذكر حيث تبلغ نسبة المحتوى الرقمي العربي حسب آخر الاحصاءات من (واحد إلى ثلاثة ونصف ) بالمئة مقابل نحو 400 مليون عربي يستخدمون هواتف نقالة يعبثون بها ليلا ونهارا، مستمتعين ( بفقاعات رقمية) لا تضر ولا تنفع بل وتلحق ضررا كبيرا بالانتاج والعمل عامة ويصرفون ساعات مع الهاتف مدفوعة الأجر لهم من الشعب والدولة وفرص البناء. ومع الزمن تزداد الفجوة بين العالمين وقد تصل إلى سنين ضوئية كبيرة لسدّ ها. رغم اهمية الثورة الرقمية في مختلف جوانب الحياة والتحول النوعي الكبير في تعامل المجتمعات معها وأهميتها في تحويل المعلومات إلى اشكال رقمية يمكن تداولها بسهولة وسرعة وأثرها في المجتمع وتفكيره وتفاعله مع العالم وفي تعاملاته المختلفة، لكنها فرضت تحديات كثيرة منها انها اثرت على خصوصية الناس والتدخل في شؤونهم واثارت مخاوف من اقتحامها والتدخل في الامور الشخصية والامنية والحساسة التي لا يجوز الاقتراب منها، اضافة إلى تأثيرها على العمل وخاصة في وظائف معينة، ما يتطلب الأمر أن تكون تحت ضوابط رسمية تراعي الخصوصيات وفرص العمل للناس، ناهيك عن وضع ضوابط تراعي الاعراف والتقاليد والافكار والثوابت التي يعتز بها كل شعب وتتوارثها الاجيال؟.

حافظوا عليها بتنظيم استخدام هذه الثورة العلمية الرقمية استخداما سليما، وتحت مراقبة الكبار في البيت والدولة بما يحقق الاستفادة منها علميا وثقافيا وعمليا وليس للهو وسد الفراغ وقضاء الوقت، بما لا ينفع والدردشة الفارغة والنزاعات الشخصية واقتحام خصوصية الناس وهي مصانة في الدستور والقوانين الدولية والمحلية. حافظوا على أولادكم في التوعية والارشاد والتوجيه في استخدام الأجهزة الرقمية ومنها الهواتف.

نصيحة ما أثمنها اليوم، صحيح أنهم خلقوا لزمان غير زمانكم، لكنه زمن واحد في القيم والخلق والمبادئ العالية والثوابت الوطنية.