محاضرة نقديَّة لرشيد هارون في جامعة بابل

ثقافة 2025/02/20
...

  بابل: صلاح السيلاوي


ألقى الناقد الدكتور رشيد هارون محاضرة بعنوان "التناص من المضمون إلى الشكل قصيدة" أنا وهي للشاعر سعد ياسين يوسف تطبيقياً" على قاعة كلية الآداب في جامعة بابل عبر جلسة أدارها الدكتور علي حدّاد.

ابتدأ حدّاد حديثه بتقديم سيرة هارون مارَّاً على بعض منجزاته النقديَّة وطروحاته واجتراحاته الفكريَّة. ثم أشار مدير الجلسة إلى أهمية الشاعر سعد ياسين يوسف الذي اهتم هارون بدراسة شعره لافتاً إلى اكتناز تجربته وتأثيرها وتمركزها حول رمز الشجرة الذي اشتغل عليه في دواوينه. 

ابتدأ الناقد الدكتور رشيد هارون محاضرته متحدثاً عن محور المحاضرة، قصيدة "أنا وهي" لسعد ياسين بقوله:

نحن أمام قصيدة، أتناولها على محورين، محور يقف على التكنيك القصصي، وآخر على التكنيك الشعري، لنكون بإزاء تصوّر جديد للتناص أطلقتُ عليه التناص الشكلي الذي ستمرُّ الدراسة على تعريفه ووظيفته، وأودّ الإشارة الى أنَّ التناص الشكلي الذي نحن بصدده، إجراء لغرض الدراسة، وليس مصطلحاً وحتى يكتسب بُعداً زمنيّاً، وبُعداً جماعيّاً في الاستعمال.

ثم تحدث هارون في جزءٍ آخر من محاضرته عن أنواع التناص لدى بعض النقاد ففصلها كما يأتي: 

- تناص تطابقي فيه تطابق بين نصّين. والتطابق هنا تطابق مضمون.

- تناص انفصالي، فيه إعلان لموت النص الأول في النص الثاني. أي ذوبان النص الأول في النص الثاني المتناص معه.

- تناص نفي موت مضمون النص الأول في مضمون النص الثاني. الأمر الذي يعني أننا لم ننفكّ من التناص المعروف لدى المختصّين. 

ثم قال: لقد خاض النقاد عرباً وغربيين في التناص في حدود الاستثمار والأخذ من نصوص أخرى تعضيداً وإشارة لفكرة ما داخل النص المنشأ بعد النصوص المُستثمَرة، ما أذهب إليه في هذه الدراسة التطبيقية على قصيدة الشاعر سعد ياسين يوسف لا يتعلّق بالأخذ ومضمونه، ولا بنوعه وكمّه وشكله الذي مرّ.

 إنَّ التناص الذي أتحدّث عنه يمكن أن أعرفه بأنّه تناص يتصل بأخذ شكل من جنس كتابي "القصة" ليستثمر في جنس وشكل كتابي آخر "قصيدة النثر" وإذا كان لكل مقتَرَح وظيفة؛ فإنّ وظيفة التناص الشكلي تتجلّى في استدعاء تقنيات القص في نص شعري مبيّت القصد في إحالته على الشعر من خلال توصيف المجموعة التي ورد فيها بـ "مجموعة شعريّة" هذه الوظيفة الجديدة للتناص وظيفة تعايش بين الأشكال، وظيفة تتوازى فيها الأشكال الكتابيَّة ولا تتقاطع.

 لا شكّ بأنَّ العقليَّة التي ترسم المشاهد الجماعيَّة غالباً ما تؤمن وتثق بالآخر لذلك يصبح الآخر جزءاً من مشهدها التي ترسم، من هنا تبدو أهمية موضوع قصيدة سعد ياسين يوسف، لأن كل ما هو جماعي هو منتج مديني بالضرورة، فالقصة والرواية والمسرح منتج مديني تنتجه العقليَّة المدينيَّة، وكأنَّ شاعرنا يظهر الوجه الآخر لطريقة تفكيره من خلال التناص مع الشكل المديني وهو ينتج قصيدة منشؤها نفسي شخصي فردي، وكأنَّ الشاعر مرة أخرى يخلق مشهداً جماعيّاً ويرويه من وجهة نظر نفسية، وهو بذلك يركّب الأشكال ثم يعرضها على نحو مشاهد منفردة، مشاهد قابلة للإفراد والتثنية والجمع على قيد من السواء، والسواد والبياض، السواد بمضمون النهاية المحزنة، والبياض بطريقة العرض المتناصة شكلاً مع العلاقات والروح الجماعية مبعث عناية القاص.

 ثم قدم هارون مجموعة من الاستشهادات من قصيدة الشاعر سعد ياسين تبيّنُ ما ذهب إليه في موضوعة التناص الشكلي فقال مبيناً: تأسيساً على ما مرّ وتقدّم من أفكار- بأننا أمام مجموعة قصص قصيرة جدّاً في قصيدة، أي يمكن في حال الاستغناء عن التناص الشكلي العودة "ببعض المشاهد" إلى الشكل الذي تناصت معه، وهذا الأمر لا يتحقق في الشعر القصصي، لأن الشعر المبني على القص لا يستعين بجميع تقنيات القصّة المعروفة كما فعل سعد ياسين يوسف، ولا يعلّق دور شخصية لتظهر تالياً كما سيرد، ولا يسند أكثر من دور للشخصية الواحدة الأمر الذي تحقق في قصيدة "أنا وهي" ليمكننا القول بالتناص الشكلي الذي تجلّت تقنياته القصصيَّة في القص القصير المبني على عدد من المشاهد، وكما هو آت:

- مررتُ بها../ هي مازالتْ بعينيها الخضراوين/ واقفةً على ناصيةِ الشَّارع/ مذ نقشتُ أوّلَ حرفينِ واسمي. 

هذا المشهد يحمل بُعداً ماضوياً على صعيد الزمن يشي بأنّ العلاقة ليست طارئة وذلك من خلال تعبير "مازالتْ بعينيها الخضراوين. بعد هذا المشهد يُعلّق الشاعر سعد ياسين يوسف حضوره حتى آخر مشهد مستعيناً بأفعال ماضية "مرّ، مرّت" عوضاً عن الفعل المضارع ليرسّخ وقوع الأحداث التي جاءت مكثفة، ويقنع بسردها.

- وهي هناكَ/ مرَّ الطفلُ فرمى الوردةَ/ أسفلَ قَدَميها/ ولوّحَ بالتّوديعِ لقامتِها. 

في هذا المشهد تأسيس للمشاهد اللاحقة، وقد بدأه بـ "مررتُ، ما زالت، واقفةً، ثم "مرَّ الطفل" و...

- "مرَّ الجنديُّ/ أخرجَ حربتَهُ وانهمكَ بنقشِ اسمهِ/ على رمانتِها، اسماً.../ لم يحملهُ قرصُ الموتِ/ وما أنْ أكملَ رسمَهُ/ انتزعَ القرصَ وقلَّدها حُزنَهُ" في المشهد اللاحق يتسع فضاء المكان أفقيّاً وعموديّاً وهو جزءٌ من عناية القص بالفضاء والمكان، سحبه الشاعر الى جوّ القصيدة:

- "قرصُ الشَّمسِ يعلو في كَبِد الوقتِ 

والحافلةُ تُطلقُ آخرَ صوتٍ"

ونلاحظ استعانة الشاعر بالجماد - قرص الشمس والحافلة- لفتح المشهد، وإذا كان القاص يشدد على التفاصيل فإنَّ سعد ياسين يوسف لم يُعن كثيراً بتلك التفاصيل ليحافظ على سمت الأداء الشعري، وليؤكّد أنه في خضمّ قصيدة في الوقت نفسِه هو في حالة من اليقظة، وفي سعي دؤوب للمحافظة على ما أسميناه الخط الموازي للقصيدة الذي تجلّى في شكل القص القصير.

تحدث هارون بعد ذلك عن عناية الشاعر بالحركة والأشخاص كضرب من الاقتراب من التناص الشكلي مع القص لخلق مشاهد تستدعي الجو القصصي، في الوقت الذي يعمل الحس الشعري التقاط بعض التفاصيل لإغناء المشهد بالمتحرّك، فطرح بخصوص ذلك مجموعة من الاستشهادات من النص هي:

- هَروَلَ ومضى الجنديُ.. 

- مرَّت طالبةُ الكُلِّيةِ/ مدَّتْ يدَها .. / أخرجتِ الأحمرَ/ رسمتْ نصفَ فمٍ /

تشتعلُ فيه النَّارُ../ قلباً../  تخشى البوحَ بنبضهِ/ خَشْيةَ أن يمتلئَ الدربُ/ باللَّيلكِ...

- مرَّ المراهقُ، حدّقَ فيها/ في ساقيها/ أخرجَ يدهُ من جيبهِ/ ذي الثّقبِ السِّري / تحسَّسَها.  

رفعَ أطرافَ قميصِ الخُضرةِ/ أطلقَ تنهيدتَهُ المكتومةَ، وأعادَ يدَهُ.../ أغمضَ عينيهِ/ ونامَ أسفلَ قَدَمَيها.

- مرَّ البائعُ الجوالُ لبَخورِ الجمعةِ/ أشعَلَ عوداً/  بخَّرَ أغصانَ ضَفيرتِها/  حتّى فاحتْ منها رائحةُ الرَّعشةِ/ أمّنها كيسَ بضاعتهِ/ وغابَ بنهرِ الشَّارعِ.

...............

- مرَّتْ امرأةٌ طاعنةٌ بسؤالٍ/ لم تلقَ جوابَهُ/ كانتْ تستغفرُ خالقَها/ إذ داستْ نِصفَ رغيفٍ مرميٍّ،/ رفَعتهُ وبلُطفِ خجولٍ/ قالتْ: قد يحتاجُ إليه/ أحدٌ - أيَّتها الواقفةُ الممشوقةُ - /  أو قد ينزلُ سِربُ حَمَامٍ/ إذا ما أبرقتِ الغيمةُ.

وقبل نهاية الدراسة التي دوّنت "الصباح" أجزاء معينة منها قرأ مدير الجلسة الدكتور علي حداد نص القصيدة "أنا وهي" ثم ابتدأت مناقشات أسهم بتقديمها أساتذة قسم اللغة العربية في كلية الآداب وطلبة الدراسات العليا فيها، فضلاً عن بعض النقاد والباحثين العراقيين الذين حاوروا المحاضر حول موضوع التناص وأشكاله.