"كمولي" هكذا كنتُ أُدلع او أُدلل حفيدي كمال، الذي حظي مني باهتمام خاص وتعلُّقِ كبير، مقارنة بأحفادي الآخرين، فهذا الولد الذي نشأ وترعرع على طبع استثنائي, وتكوينة غريبة الى حد بعيد عن أقرانه من أولاد العشيرة، يمتلك منذ طفولته إمكانية الحضور العالية التي تلفت الانظار اليه، فهو سريع البديهة ذكي فطن رقيق وكأن الدمعة تكمن في أطراف عينيه، الى جانب شغف متطرف بالمقالب والمزاح والضحك و(الكاميرا الخفية) والأهم من ذلك كله بالنسبة لي انه قلم جميل، فقد كنتُ أتابع ما يكتبه من موضوعات في درس (التعبير) وأزدادُ إعجاباً به، وأتوقع له مستقبلاً عظيماً، غير أن عيبه الوحيد يتمثل في عدم اهتمامه بالقراءة، بل انه لم يقرأ في حياته كتاباً في أي جانب من جوانب الثقافة، أما هوسه ففي الانترنت وأبوابه وفصوله، أكاد أجزم أنَّ 95 بالمئة من حياته هي انترنت و5 بالمئة متابعة الفضائيات، ولأنني عجزت عن تغيير بوصلاته فقد تركته على هواه ما دام لطيفاً مؤدباً ولم يتلكأ في دراسته.
قبل بضعة أشهر كتب مادة تقرب من المقالة تحت عنوان (مقارنات) وطلب مني الاطلاع عليها وإبداء الرأي فيها، وأشهد من دون انحياز لكونه حفيدي أنه كتب نصاً غاية في الظرف والامتاع، فهو يقارن ما بين مرحلتين (2003 وما قبلها) ويشير الى أنَّ البلاد لم تكن تتحدث بالدستور أو تشير اليه من قريب او بعيد، بينما أصبح بعد 2003 جاهزاً على لسان الطبقة السياسية، كل شيء يتم الاحتكام به والرجوع اليه، الا في الحالات التي تتعارض فيه مصالحهم مع بند من بنوده حيث يشنون عليه هجمه شرسة وكأنه العدو المبين، وأقل ما يقولون عنه انه مليء بالمطبات والنواقص... الخ.
في مجال الديمقراطية يذكر بأن العراق قبل هذا التاريخ لم يعرف الديمقراطية ابداً منذ تأسيس دولته، ولذلك حرم (بضم الحاء وكسر الراء) المواطن من إبداء رأيه والتعبير عن شخصيته، أما بعد 2003 فبات المواطن قادراً على إبداء الرأي الى أبعد حد وبأجواء من الحرية غير مسبوقة، بغض النظر عن أنَّ أحداً لا يسمعه أو يلتفت اليه ولو بطرف العين، وختم مقارناته بالتقاطة غاية في الطرافة، مفادها ان الرشوة قبل عام 2003 كانت بالدينار، وبعده أصبحت بالدولار.. ولأنَّ الولد طلب رأيي، فقد أثنيتُ على ما كتبه ثناءً جميلاً، وقلت له [إنَّ مقالتك تنتمي الى ما يعرف بالكوميديا السوداء] وشرحت له معنى هذا المصطلح، كما أوضحتُ له بأنَّ أجمل ما في كتابته يتمثل بالوضوح والبساطة ويتجنب التعقيد والتعابير الموغلة في الغموض... الخ.
لم يسبق أن رأيتُ حفيدي بمثل تلك السعادة، ومع مرور الأيام نسيت (مقارناته) من دون أنْ أغفل ما ترسخ في ذاكرتي بأنَّ الولد مشروع لكاتب مستقبلي لو انه أولى بعضاً من وقته لعوالم الثقافة و... وها هو قبل بضعة ايام يقتحم غرفتي منزعجاً (ليش جدو ورطتني .. الاستاذ رفض موضوعي وسألني بسخرية: بابا آني ردت منك "بحث تخرج" لو بحث مال ضحك؟!) لم أصدق ما سمعت، سألته (ليش المادة اللي آني قريتها كانت بحث تخرج؟!) أجابني (بلي جدو) وحيث لم أجد شيئاً قريباً من يدي، صرخت بأعلى صوتي: ملعون الوالدين إطلع من الغرفة!!