واقعة بثلاثة مشاهد!

الصفحة الاخيرة 2019/07/27
...

 جواد علي كسّار
المشهد الأول: حصل ذلك في المطار مصادفة دون تخطيط مسبق، فقد رأيته بعد فراق دام خمس سنوات أو أكثر، لكن كنت أعرف مسبقاً أنه يشغل رئاسة واحدة من أكثر الهيئات المستقلة تماساً مع الناس، ما يعني أنه بدرجة وزير!
لا أنسى حرارة اللقاء، فلم يكتفِ بالمصافحة الطويلة وبسمته الودودة الدافئة، بل أخذني بالأحضان تماماً كما كان يفعل أيام المعارضة والمهجر قبل ربع قرنٍ أو أكثر، حيث جمعتنا صداقة حميمة، ولقاءات حول الشأن العراقي العام في المهجر، لا سيما تجاذبات بعض الخطوط ومحنة الاقصاء التي تعرّض لها، في صحيفة ومنظمة كان من المبرّزين فيها، قبل أن تأخذه همته الطموح إلى المشاركة بتكوين مؤسسة رصينة للكتاب والمؤلفين العراقيين في المهجر.
جمعنا الانتظار إذ كنا على رحلةٍ واحدة، لذلك رحنا وصديق ثالث، نقلّب دفاتر الماضي ونحن نعطف صفحاتها على الحاضر، وما آل إليه وضع بلدنا بعد التغيير. بحكم العلاقة القديمة الوطيدة وحرارة اللُقيا، سألته على نحوٍ مُباشر دون تقيةٍ أو مواربة: هل لا زلت وأنت على رأس المؤسسة؛ مستقيماً صالحاً كما كنت في الماضي؟ أجاب: لا قيمة لجوابي إذا قلت لك: نعم! قلت له موضحاً: المعيار العملي للاستقامة والصلاح عندي لمن هو في موقعك، هو قضاء حوائج الناس، ممن ترتبط حاجاتهم بمؤسستك، ردّ عليّ: جرّب، ثمّ افترقنا ببغداد على ودّ، هو إلى سبيله، وأنا إلى محلّ سكناي، بعد أن تبادلنا الهواتف ووعد منه بقضاء حاجة من ترتبط معاملته بمؤسسته!
المشهد الثاني: لقد عرفته قبل أكثر من عشر سنوات من خلال ولده، فَسَرَت العلاقة من الولد العزيز، إلى الوالد المكرّم، وهذا كثيراً ما يحصل. كان يومها لم يبلغ السبعين بعد، حين توطدت العلاقة ورحنا نتبادل الزيارات واللقاءات في بيتهم وخارجه، فعرفت الكثير عنه وعن أسرته التي تنحدر من ذرية النبي صلى الله عليه وآله، من ذلك مثلاً أنه سجين سياسي لديه معاملة متعثرة في مؤسسة السجناء، على النحو الذي مضى عليها أعوام دون نتيجة، وقد حدث إحدى المرّات أن رافقته إلى فرع المؤسسة في الحلة، لكن دون جدوى.
أشهد أني لم أر هذا الرجل الوقور متبرماً بتلكؤ سير معاملته، وبالتأكيد لم أسمع منه الشتائم وكيل التهم للعاملين بالمؤسسة، فضلاً عن أن ينبز بالوضع القائم ويحنّ إلى أوضاع النظام الساقط، كما يفعل الكثير منا، ربما لكرم منبته وحسن أرومته وغناه عن الحقّ المادي المرتقب من السجن السياسي. لذلك كله كانت أول قضية فرضت نفسها على ذهني حين التقيت بصديقنا رئيس المؤسسة، هي قضية هذا السيّد الذي نيف سنّه على الثمانين، فتحمّس صديقنا الرئيس لمتابعتها، وأن يضعها ضمن أولوياته؛ فقط طلب مني التواصل معه برسالة هاتفية، وتحديد موعد لصاحب القضية، لكي تأخذ سبيلها إلى الحلّ.
المشهد الثالث: في أول لقاء لي ببغداد مع صديقنا صاحب المعاملة، أخبرته بما دار مع رئيس المؤسسة، فابتهج. لكني لم أتابع لكسلٍ مشوب بمرضٍ وانشغال عائلي ومهني، وصديقنا صاحب المعاملة كان على وشكِ سفرٍ، وقد سافر، لذلك أدرجت القضية في سلّة الانتظار، إلى أن جاء ذلك الصباح!
عند متابعتي الصباحية اليومية لهاتفي، فوجئت برسالة على الخاص من رئيس المؤسسة يذكرني بقضية صاحبي الذي لا يعرف حتى اسمه، ويعرض استقبالي لمتابعة القضية، فعمّ الفرح وجودي كلّه لهذه المبادرة، وكان من فرحتي أنني قررت أن لا أجيب على الرسالة قبل كتابة هذا العمود؛ لكن يا لهول المفاجأة، فقد بادرني رئيس المؤسسة باتصال هاتفي أثار البهجة العارمة بي، لكني لم أجبه أيضاً، بانتظار أن يُنشر العمود كتحية له ولأمثاله من الإنسانيين الطيبين!