زمن مر، اربع سنوات، مسافة وعمر، منذ انقطعت عن زيارة البساتين الاسباب بين المخاطر الطارئة التي جلبتها علينا سنوات الانفلات، وبين افتقاد البساتين لافراحها وازدهارها حتى كأن لم تعد ترى ربيعا ولعل يباس الجداول اشارة لتغيير الطريق، وديالى الذي كان يخيف بفيضانه جفّ. فهو مدد على بقايا وشل وحوله نفايات الزمن التي صنعتها التجاوزات والفوضى.
حين أقول قطعت الزيارات، فلست بالزائر الذي يخف إذا زار. أنا صاحب صلات قديمة وأمكث النهار وإذا كانت الاستضافة لقضاء الليل في كوخ بعيد قليل عن زحمة الاشجار اعني في رحبة بينها ليطيب الهواء، فما أجمل الفجر يتسلل من بين الاشجار القريبة ثم ينهمر اضواء شمس ويتغير العالم حولك.
البستان ليس اشجارا منوعة ودغلاً وسواقي واصوات طير وصليل أو صفير مخلوقات الله، ربما كما قالوا تسبح بحمد الله او تهزج من فرح بالحياة. اعتقد ان شيشرون هو الذي يقول: بأنك “اذا دخلت الى أيكة عظيمة، فأن وجود الإله سيتجلى لك في أبهى صورة ..”.
زراع البساتين لهم طقوس مع بساتينهم وكأنهم يؤدونها معاً. هذا ما لاحظته، ما شهدته وجربته، في التسميد وفي التشريب وفي القطاف. عناية من طرفهم وامتنان صامت من طرف البساتين، والسعادة بينهما تبتسم.
اجلس بمحبة، بأدب، بحنو وتشوق لشيء، عند شجرة أختارها. أشعر بالاستجابة، بأني مع صديقة قديمة أو قريبة أو أنا أمام قصة نائمة لا يراها أحد.
قد تستهين بعشبة طارئة، طلعت في مكان ليس لها. قد لا تريحك ضآلتها أو خشونتها أو لا معنى وجودها. لكن واحدة الدغل هذه، يمكن ان يكون لها حضور آخر إذا أنت هدأت وحضر الشعر والله وحلت عليك السكينة.
في هذا الوقت الصافي، في لحظات الانتباه هذه، تبدأ لك علاقة حب أو احترام أو جوار مهذب مع هذه الغريبة، الخشنة أو الناعمة، كبيرة الاوراق مزهرة أو صغيرة الورق لم تزهر. ستكون إنساناً آخر تكون هي قد اعادت لك إنسانيتك.
وكما بخشوع ستسأل نفسك: من تكون هذه؟ ما هيَّ سلالتها؟ كيف وصلت وكيف وجدت لها مكاناً، وطناً، ونبتت؟ الا توجب هذه النبتة الاحترام، المحبة، الا تستحق عناية لتعيش مطمأنة هنا؟ من قال أنها بلا فائدة؟ هكذا، أنا إنسان واحد بين ابناء الحياة بين هذه الأشجار، الأحراش والهوام المضيئة او الديدان تراها إذا قلبت المسحاةُ التراب –
الطين.
ولكن البساتين ابتعدت، فأنا خشن، شرس أحيانا. أحياناً أنا والحجارة في الصمت سواء. أحياناً أراني طارئاً على العالم، والعالم غير مريح مضطر أنا، محكوم بالعيش فيه.
نعيش في كم من الجدران والأضواء القاسية المتقاطعة. حجارة وصخور لا منبثقة أو صنعتها الأنواء الأزلية ولكن مزّقها وقطّعها الإنسان كما يريد. فأنا هنا، في البستان، أجد كل شيء حولي حياً وألمس حيث أكون عاطفةً ويمنحني كل ما أراه إشارة لمعنى.
كانت هناك مظاهر قوى وطاقات وقدرات سحرية للحياة، الحياة التي هي في النهاية ليست لي، أنا في النهاية لها. وأنا حي هي الصامتة تشكل كل حياتي وتفتح ممراتها الخفية لأكمل الطريق.
في البساتين يعرفون هذا. ورثوه واحتفظوا به سالما ليورثوه. هم يباركون الاشجار قبل القطاف ويحتفون بنعم الله وهم يرون تلال الثمار ترتفع.
الهندي الاحمر، كما يروون عنه هندي الزيوكس، حين يريد ان يدخن الغليون، فأنه يرفع عنقه نحو السماء، كي تأخذ الشمس السحبة الأولى، ثم يوجهه الى الجهات الاربع، وهي اتجاهات العالم الذي هو فيه من دون أن يبرح مكانه.
في القرى العراقية، في قرى الجنوب وقرى ديالى التي عرفت، حين تجتمع العائلة على طبق الرز الكبير واللبن، يبدأون بسم الله الرحمن الرحيم وينتهون بالحمد لله.
هم يبدأون باسم الحياة ومن نعمائها يأكلون هي الحياة تطعم ابناءها، الحياة تغذي الاحياء، وهي الحياة من بعد تستحق الثناء فقد وهبتهم فرصة العيش والتمتع بالكون والدنيا.
آخر مرة زرت القرية والبساتين، سألتهم: أين شجرة التين؟ هم يعرفون ما أقصده، شجرة التين التي تنمو في الطريق، بين بستانين، وراء حائط هذا البستان ووراء حائط ذلك، لا يعنى بها أحد ولا تنتسب لأحد وتورق وتثمر، تعطي تينا للعابرين في الطريق – تلك أنا ولكن
شجرةَ تين!